بندر الزهراني

الذرائعيون في جامعاتنا كالجراد!

السبت - 24 أكتوبر 2020

Sat - 24 Oct 2020

قابلته ذات مرة في الإدارة العليا للجامعة يحاول إقناعها بافتتاح مركز للأبحاث، يتمحور حول تخصصه العلمي الدقيق، مستغلا الطفرة المالية التي كانت تعيشها الجامعة، والذرائعية التي كانت منهجا لإدارتها آنذاك، واستطاع بمهارات بسيطة إقناعهم بما أراد، ليس عبقرية منه أو دهاء على ما أظن، ولكن ربما بسبب الميكافيلية التي تقاطع فيها وجدانيا وسلوكيا مع الإدارة، فتوافق - كما يقال في الأمثال العربية - شنٌ مع طبقة، ونال ما ناله من الدعم المادي والمعنوي، وافتتح مركزه سريعا، وسبحان الله ظننت أنه سيبقى كذلك سطحيا هامشيا، حتى فوجئت قبل أيام باختياره خبيرا ومستشارا في إحدى الجهات الرسمية!

ربما تتساءلون عن سر مصادفتي في الإدارة العليا في ذلك الوقت، الواقع أنني كنت أقوم بما كان يقوم به صاحبنا هذا، مع اختلاف السبل، والنوايا يعلمها الله، فقد كنت أقدم عرضا مفصلا لإدارة الجامعة عن مقترح أرسلته لها، وعلى الرغم من أهمية وجدية ما كنت أطرحه إلا أنني لم أوفق في إقناعها، ولا أدري وقتها هل نظرتي للأمور كانت أبعد مما تتصوره الإدارة أو أن الإدارة هي نفسها لم تكن مهيأة بشكل كاف لاستماع صوت الفكر الجاد فضلا عن قبوله وتبنيه! مع أنني كنت ولا زلت من أولئك الذين يرون أن الأفكار لا تكون أفكارا جيدة إلا إذا كانت قابلة للتطبيق وكانت نتائجها إيجابية، وهذه إن شئتم أسميناها براغماتية محمودة!

وسواء اعترفنا أو أنكرنا، شئنا أم أبينا، الذرائعيون الأكاديميون داخل الجامعات وخارجها كالجراد انتشارا وآثارا، فالغالب على من هم في المراكز القيادية الأكاديمية أنهم يؤمنون بأن أفكارهم وآراءهم وتصرفاتهم ذرائع تبيح لهم ما لا يباح لغيرهم، ويستعينون بها على البقاء في مناصبهم الإدارية والاحتفاظ بأدوارهم الأكاديمية أطول مدة ممكنة، وقد تساعدهم في تحقيق هذا الغرض بعض اللوائح والأنظمة التي تتكرس فيها مفاهيم الإدارة الكلاسيكية كالبيروقراطية والتراتبية الإدارية!

إشكالية مشروع سكن أعضاء هيئة التدريس التي تحدثنا عنها الأسبوع الماضي ما هي إلا نتيجة من نتائج الذرائعية التي نعنيها، بل ربما هي من أسوأ صورها، فإذا أحسنا الظن وتجنّبنا في النقاش نوايا المسؤولين، واقتصرنا على الوقائع التي هي أمامنا كالشمس في رابعة النهار لقلنا بجلاء: إنما أخفق هؤلاء المسؤولون بسبب طغيان مفهوم الذرائعية في أفكارهم وعلى أقوالهم وأفعالهم، فهم في هذا المشروع تجردوا من المثاليات وأنجزوه هكذا كيفما اتفق، للوصول لغايات مادية ومعنوية محددة، وليقال إنهم أنجزوا كذا وكذا، كي يستمروا في مناصبهم القيادية أو ينتقلوا لأفضل منها دون النظر للعواقب أو الاكتراث بالنتائج!

ومع أن هناك علاقة طردية تامة بين الذرائعيين والعواقبيين من ناحية فلسفية بحتة إلا أنه من المفارقات انتفاؤها في الحالة الأكاديمية المحلية، فالنظر للعواقب عندهم مسألة فيها نظر، ولها خطوط رجعة واستدراك، والإشكالية الكبرى أن تكون نظرتنا للأسباب والذرائع أو العواقب والنتائج منسوبة للعمل والتجربة ومجردة من الدين والأخلاق، عندئذ تفقد الضوابط، وتضطرب النزاهة، لذا نجد في المفهوم الفقهي أن قاعدة «سد الذرائع» وقاعدة «درء المفاسد» أصلان من الأصول الفقهية المهمة، كي تكون الأولى ضابطة للوسائل والثانية ضابطة للمقاصد، فالمسألة ليست متروكة هكذا خبط عشواء!

الذرائعي النفعي لا يحضر اجتماعا في مجالس القسم والكلية أو مجلس الجامعة إلا بمقابل مادي، ولا يراقب اختبارا إلا بمقابل مادي، ولا يكتب بحثا أو يقدم مقترحا أو يكتب مقالا أو يقول كلمة حق إلا بمقابل مادي، وربما لا يرشح أحدا أو يترشح لمنصب إلا بمقابل مادي، فالمادة التي قد تكون مالا أو مكانة أو أشياء أخرى هي الذريعة والمحرك الرئيس لهؤلاء، إنهم الماديون إذن! ولو أن هذا المصطلح أعمق بكثير من أن توصف به هذه العينات!

الإدارات الأكاديمية المؤمنة بمبدأ النفعية سواء الشخصية أو الجمعية لا تؤتمن على قيادة المؤسسات التعليمية أو إدارة المراكز البحثية، لماذا؟ ببساطة لأن هذا النوع من الإدارات على أنه عملاني إلا أنه غائي، غارق في الغايات من رأسه إلى أخمص قدميه، والغاية عنده تبرر الوسيلة، وسبحان الله كلما حاولت تحليل حالة الإدارة الأكاديمية في جامعاتنا غرقت في المصطلحات الفلسفية الأكثر خطرا والأشد ألما، على أن أغلب هذه الإدارات سطحية الفكر، ضبابية الرؤية، أو بالأحرى هي إدارات تصريف أعمال وكفى!

drbmaz@