أحمد الهلالي

البوري يتهم المجامع اللغوية بالضعف!

الثلاثاء - 06 أكتوبر 2020

Tue - 06 Oct 2020

دأب الإنسان الأول على تسمية كل الموجودات، في الأحياء (إنسانا وحيوانا ونباتا) الأصوات والهيئات والحركات وتفاصيل الأعضاء، وفي الجمادات أيضا الأشكال والألوان والمواضع، وغير ذلك، فلم يترك شيئا غُفلا إلا في النادر، أما نحن اليوم ففي هذه الحياة الصاخبة، المزدحمة بتقنياتها المختلفة، ومنتجاتها المتزايدة المحيطة بنا من كل جانب، التي لم تجد - بعد - العناية الكافية من مجامعنا ولا جامعاتنا ولا مراكزنا البحثية.

تعالوا لنأخذ، على سبيل التمثيل لمقاصد هذه المقالة، صوت (البوري): يقال إنها مفردة تركية معربة تعني البوق، وبالكاد استطعنا تسميته (منبه، بوق) ثم أصبحنا نضيف إليه كل آلة أو جهاز صائت (منبه السيارة، الجوال، الساعة، الفرن، ...إلخ)، فلم نستطع تخصيص منبه السيارة باسم يخصه هو فحسب لا يحيجنا إلى التركيب الإضافي في ذلك، فما بالكم بعجزنا عن إنجاز معجم (البوري) في الاستخدامات. معظم استخداماتنا اليوم جمل فعلية مع المسمى الأجنبي، فلم نشتق من (المنبه) شيئا مفيدا، بل نقول: (يضرب بوري/ يدق بوري...) ونادرا ما تسمع الفعل العامي المحاكي (يطوّط)، أو (يطنّب) في بعض المناطق، لأن نغمات البوري أيضا تختلف من صانع إلى آخر، ما أوقع اللغة في مأزق.

ولنتأمل استخداماتنا التعبيرية بصوت البوري (الأفعال الإنجازية)، فنحن نستخدمه للتنبيه (بيب/ طاط)، وحين نريد استخدامه للتحية فإننا نطلق نغمتين قصيرتين متتابعتين، وكذلك نعبر به عن غضبنا من سائق أو ماشٍ ضايقنا بكيفية معينة، ونعبر به أيضا عن استعجالنا، وكذلك للتنبيه الخفيف جدا في الأماكن المزدحمة أو التي يحظر فيها استخدامه، ونعبر به عن أفراحنا أحيانا في مواكب الزواجات أو الاحتفالات الرياضية أو الوطنية، ناهيك عن استخدامه للنجدة في السيارات الحديثة حين يحاول اللصوص فتحها عنوة، فينطلق بصوته المتقطع الشهير، وربما هناك استخدامات أخرى لا أعلمها، لكن على كثرة هذه الاستخدامات يغيب المصطلح، وكأن آلتنا اللغوية جمدت وكلّت عن تسمية هذه الحالات، واجتراح المصطلحات الدقيقة لها، مع أن الأمر ممكن، وانظروا كيف خلقت العامية مصطلح (الونّان) لصوت منبه الإسعاف وسيارة الشرطة، لكن المجامع اللغوية لا تزال تتجاهله!

كل ذلك عن (البوري) فحسب، فما بالكم بحقول كثيرة جدا تتعلق بمسميات المنتجات وأنماط الحياة الحديثة، والأصوات والهيئات والوميض والحركات، ناهيك عن الاستخدامات الأساسية لها، وتجاوزها إلى استخدامات كما رأينا في البوري، فعلى سبيل التمثيل أيضا هناك لغات إشارية تعارف سائقو السيارات عليها في استخدام الإضاءة الأمامية، أو الإشارات الجانبية الأمامية أو الخلفية، وباتت لها دلالاتها المهمة جدا التي تسهم في سلامة السائقين، ونجد العامية تجترح أيضا بعض مصطلحاتها مثل (كشّح) بتضعيف الشين، التي تعني أومض بالنور العالي للسيارة على وجه التنبيه أو التحذير، وربما أتت من معجم البرق، وغيرها من الاستخدامات العامية، وهذا ما ننتظر أن تنظر فيه المجامع لخلق مصطلحات لهذه الأفعال المتزايدة تغنينا عن استخدام التراكيب الإضافية أثناء التوصيف.

إن ضعف مواكبة المؤسسات الأكاديمية والمراكز البحثية والمجامع اللغوية لهذه الحقول المستحدثة في حضورها الاجتماعي العام، أو في حضورها في المعاجم المهنية المتخصصة، خاصة الصناعية، جعلها في معزل عن الدراسة والتقعيد والتطوير، وغيبها حتى عن المدونة الأدبية، فلا تزال بعضها غفلا بلا مسميات، وشبه الجمود هذا يضعف ألسنتنا، ويتهم قدراتنا، فكأننا نستهلك مخزون المياه الجوفية ولا نمطر!

ahmad_helali@