صالح عبدالله بوقري

غرم الله وحديدة زياد الرحباني

الاحد - 04 أكتوبر 2020

Sun - 04 Oct 2020

في حوار ممتع ملهم عن الموسيقى والقصة والترجمة والتشكيل، تفرع بنا الحديث إلى آفاق جديدة عبقة استعرضنا خلالها نماذج من أعمال غير مسبوقة في الفن، كان منها أن استمعنا إلى تطريب من زياد الرحباني بصوته العاجي المضمخ في غابات الصنوبر وهو يخاطب رضا في مواله الشجي «اسمع يا رضا.. البارح كنا على الحديدة واليوم صرنا على الحديد».

في كلمات قد تكون بسيطة لمن يقرؤها، لكنها تتفوق في روعتها لمن يسمعها ملحنة مع البيانو وبصوت زياد.

عادت إلى ذاكرتي قصة الحديدة التي رسمت تساؤلا ما زال مقيما في خاطري منذ أكثر من عشرين عاما عندما:

لاحظته يمر ببطء أمام مكتبي.. رجل في هيئة مهيبة عليه من أثر النعمة ما لا يمكن أن يخفيه، لاحظت أن عينه وقعت على مكتبي حيث كنت منشغلا بجهاز الحاسب مع بيانات العمل، كأنه راجع نفسه وعاد ليقف أمام الباب ملقيا التحية: السلام عليكم. وتابع قوله: معاك غرم الله مين الأخ؟

- أهلا شيخ غرم الله.. أنا مسؤول الإدارة هنا.. هل من خدمة أؤديها لك؟

- هل تجيد الإنجليزية؟

- نعم.. ما الأمر؟

- عندي موعد مع جارك في المكتب الثاني.. الخواجة «سكيب» وأحتاج مترجما لأني لا أتكلم اللغة.

- يسرني مساعدتك يا شيخنا..

- بارك الله فيك.. عندي موضوع مهم وأحتاج منك إيصاله للخواجة حرفيا بدون تغيير ولا تعديل.

- لا بأس، سأحاول في ذلك، لنذهب إليه.. استوقفني غرم الله ثانية في الممر قبل أن نصل باب مكتب مستر سكيب، مؤكدا حرصه على أن تكون العبارة التي يقولها واضحة، وأن تكون منقولة تماما كما سيقولها.. استغربت لهذا الحرص ولكن أردت أن أطمئن أن مساعدتي للرجل ستكون مرضية، كما لا أريد تضييع الوقت في هذا الموقف الطارئ الذي نزل علي فجأة وتجاوبت معه تلقائيا بتأثير شخصية الزائر الغريب على الإدارة، كما أن «سكيب» زميل في العمل وهو المسؤول عن إسكان مجموعة من الملاحين المتعاقدين.

- ولكن يا شيخ غرم الله ما هي العبارات التي في ذهنك وتريد أن تطمئن على نقلها وترجمتها حرفيا؟

- أريدك أولا أن تخبره بأني أعلم أن استحقاق الإيجار لم يحن بعد للعمارة التي يسكنها والملاحين في شارع المطار.

- هذا واضح ويمكن ترجمته.

- بعد ذلك أريدك أن تؤكد له أن السبب في الطلب المبكر للإيجار هو أني أي (المالك) على الحديدة.

- المعذرة يا شيخنا قد لا يحضرني اصطلاح في الإنجليزية يؤدي هذا المعنى، ولكن يمكن تجاوز هذه الاستعارة إلى جملة أكثر وضوحا.

- لا.. لا.. أنت قلت تعرف إنجليزي!

- نعم أعرف ولكن لم تمر علي هذه الجملة أبدا.

(كان هذا الحوار في المسافة القصيرة بين المكتبين)

- طيب ممكن تقول له إن غرم الله ما جاك إلا وهو «انقطي!!» أجبته مازحا.

- وهذه أصعب من الأولى. امتعض غرم الله من إجابتي وقال ممتعضا بتأفف:

- يا أخي الله يستر عليك، إذا ما تعرف لغتهم كيف شغال معهم؟ ولدهشتي أن غرم الله استدار عائدا بالهدوء نفسه الذي جاء به متشاغلا بمسبحته الكهرمان متمتما بفمه، وقد هاله أن شخصا يدعي معرفة اللغة ولا يعرف عبارات بسيطة كهذه.

ضحكت مليا عندما فاجأني سكيب الذي أطل برأسه من مكتبه قائلا: ماذا كان يريد صاحب العمارة التي نسكنها؟

قلت: جاء يتكلم عن الإيجار، ولكنه آثر العودة دون الحديث معك. أجاب: ليس الآن موعد السداد ولا داعي للتدخل.

شعرت أن هذا أخرجني وأخرج الشيخ من الحرج، ولم أكن سأشعر بالارتياح إذا كنت كذلك مشاركا في حوار ثقيل بين المالك والمستأجر مستخدما لغة لا يرضاها الشيخ.

عدت إلى مكتبي متسائلا عن أسباب هذه التعبيرات التي دخلت لهجتنا اليومية، التي لا بد أن يكون لها سبب، وكون الإنسان محتاجا أو مفلسا أو فقيرا ويعبر بذلك عن حاله أنه على الحديدة لا أدري أي حديدة!

ومنذ أيام وبعد عقدين من الزمن الذي مضى على فشلي في الترجمة بين الشيخ والخواجة، وصلني تسجيل من صديق سمعته مرارا:اسمع يا رضا (بصوت جبلي قادم من غابات الصنوبر في لبنان، صوت زياد الرحباني في كلمات مؤثرة

يعلن فيه كذلك أنه أصبح على الحديدة.

أدعوكم إلى سماع مواله «اسمع يا رضا».