عبدالحليم البراك

حمى الاقتباسات

الاثنين - 28 سبتمبر 2020

Mon - 28 Sep 2020

عادة لا يخلو حديث جاد بين اثنين من اقتباس من كلام مشهور أو حكيم أو فيلسوف أو شخصية عامة ذات وزن، تدعم عرى الحوار بينهما، أو تؤيد أحدهما، كما لا يكاد يخلو كتاب أو نص من اقتباس يدعم وجهة نظر الكاتب، وتعج مواقع التواصل الاجتماعي بهذه الاقتباسات أيضا، ولأن التسطيح مرض أصاب الجميع، أو يكاد، فإن هذه الاقتباسات باتت غير موثوقة هي الأخرى، فصارت الاقتباسات أكثر من الكلام نفسه أحيانا.

ولا شك أن في الاقتباسات اختصارات للحكمة والخبرات والتجارب، وللحقائق أيضا، لكن الإشكالية هي كثرة الكذب في الاقتباسات دون الإشارة إلى المصدر، وعلى سبيل الحكاية: المرحوم الدكتور غازي القصيبي يشار إليه كثيرا جدا في الاقتباسات مؤخرا؛ لو جمعت كل الاقتباسات عنه لصارت أكثر مما كتب رحمه الله، فصرنا لا نثق بمن يقول عنه كلاما حكيما حتى يوثق كلامه بمرجع، أو صورة من كتابه. وما قيل عن السفير القصيبي رحمه الله ينطبق على غيره.

ولأن الناس كسالى فإن الصادق منهم لا يشير أو ينقل عن غيره دون توثيق أو تساؤل أو إشارة للمؤلف الذي وردت فيه العبارة، ولا شك أن بعض هذه الاقتباسات ركيك أو لا قيمة لها، أو أنها لا تتوافق مع الواقع ولا تنسب للفكر العام لمن أشيرت إليه، ولكن أحدهم أحب تمرير عبارة جيدة - أو يظن أنها جيدة - فينسبها لأحدهم بحسن نية أو بسوء نية.

الاقتباسات دون الإشارة إلى المصدر تأكيد لثقافة عدم التوثيق. وعدم التأكد إنما هي أرضية خصبة لثقافة الإشاعة، وأن تتلقف جموع الناس أي خبر وأي اقتباس دون التوثق، أو استعمال أدوات التوثق مثل المنطقية في الاقتباس، ومناسبة المقتبس للقائل المنسوب إليه، أو توافقه مع منتجات القائل، فلا يعقل أن يقول الحكم النثرية من كان كل إنتاجه دواوين شعر، ولا من المنطق أن يكون حديثه عن التقنية الحديثة لمن عاش قبل مئة عام، أو تنبؤ شخص مات من زمن بما يحدث اليوم!

الاقتباسات لا تزال ذات أثر عظيم على الناس، فلماذا يمرر الكاذبون هذه الاقتباسات؟ وبدلا من أن ينسبوها لأنفسهم ينسبونها لشهير؟

هناك أسباب عدة، منها أن بعضهم يريد أن ينتشر الكلام، فلعل مسوغ الانتشار هو نسبتها لشهير يدعمها اسمه، وفي الوقت نفسه الذي ينكر نفسه فإنه يأمل أن يأتيه كلامه عن طريق آخر، مما يدل على انتشار (كذبته الصادقة).

ولعل من بعض أسباب كذب بعضهم في الاقتباسات الظهور بمظهر المثقف القارئ، لكن العلم والثقافة أخلاق لا تتوافق معها أدوات الادعاء والكذب، ولعل بعض الكاذبين في الاقتباسات يظن أنه يقوي موقفه أمام الناس بنقاش إن نسب لغيره بعض كلامه، ولا يدري أنه قد يكسب جولة النقاش ويخسر نفسه وأخلاقه.

وبقي حكاية أخيرة في الاقتباسات، وهي إن طلبت من أحدهم مصدره في اقتباسه غضب، وطالبك أنت بالبحث عن المصدر، ولعل هذا هو الهروب الغبي من المسؤولية، وهذا لا يليق بمن يعطي حكمة لينشرها بين الناس، فأدب الحكمة أحيانا أهم من الحكمة نفسها!

أخيرا، أختم بمقولة للمهاتما غاندي «نحن لسنا بحاجة لجذب الأتباع عن طريق الكتابة أو الكلام، يمكننا أن نفعل ذلك من خلال حياتنا، فلنجعل حياتنا كتبا مفتوحة يدرس فيها الجميع». هل غاندي قالها فعلا؟ وأين قالها؟ وفي أي مناسبة؟ وكيف تم توثيقها؟ كل الذي أعرفه أني وجدتها في الانترنت، وربما وقع صاحبكم بما حذر منه.

Halemalbaarrak@