زيد الفضيل

جدلية الاستشراق والاستغراب

الاثنين - 03 أغسطس 2020

Mon - 03 Aug 2020

كان ذلك هو مطلع عنوان المؤتمر العلمي الالكتروني الذي عقد الأسبوع الفائت بإشراف الدكتور خليف الحسيني المشرف على المنتدى الافتراضي للمؤرخين العرب، والدكتور حاتم الصديق مدير مركز بحوث ودراسات دول حوض البحر الأحمر بالسودان، والذي انعقدت جلساته على مدى يومين متواليين، شارك فيهما قرابة أربعة وعشرين باحثا وباحثة من مختلف أنحاء العالم.

وحقيقة القول فقد حظي المؤتمر باستحسان كل المشاركين جملة، ولا سيما أن جهدا كبيرا قد بذله القائمون على تنظيمه الكترونيا، فكانت متابعتهم الدقيقة لمختلف تفاصيله العلمية، والمهم بعد ذلك إخراجه تقنيا بشكل مهني احترافي، حيث حرص القائمون على احتفاظهم بنسخة مسجلة من بعض الأوراق المعدة للعرض ليتم عرضها مباشرة في حال تعرض الباحث لأي عارض تقني يمنعه من التواصل مباشرة وقت جلسته المقررة. ولعمري فذلك جهد كبير، وقد لمست جانبا من صوره باعتباري رئيس جلسة لإحدى ندواته، ولا أجد كلمة وافية يمكن أن تعكس بعض ما قام به أولئك الجنود المخفيون بإشراف ومتابعة الدكتور خليف، سوى أن أتقدم لهم بالشكر وأدعوهم للفخر بجهدهم الذي قدموه.

على أني وبالرغم من نجاح تجربة اللقاء العلمي الالكتروني وتسهيل مشاركة كثير من الباحثين من مختلف دول العالم، وعدم تحمله لأي نفقات مالية سواء ما يتعلق منها بالسفر أو الإقامة وما يتبعها لاحقا، لكني لست مؤيدا لأن يكون ذلك سمتا مسيطرا على أجواء المؤتمرات العلمية مستقبلا. ذلك أن القيمة المضافة ليست محصورة في الاستماع للورقة العلمية المقدمة والتعليق عليها، وإنما تتعدى بشكل أكبر إلى حيثيات النقاش الجانبي الحادث في أروقة المؤتمر بين مختلف الحاضرين، وما ينتج عن ذلك من معرفة مكتسبة، وحوار بناء، بل وبرامج عمل مشتركة.

وفي الوقت ذاته أجد من المناسب أن تعقد المؤسسات العلمية ندوة افتراضية شهرية على أقل تقدير، تستضيف فيها أحد الباحثين محليا أو دوليا، ليطرح ورقة علمية يتم مناقشتها عبر الفضاء الالكتروني، ولا يغني ذلك عن استمرار عقد الندوات الإنسانية المباشرة التي يمكن أيضا نقلها الكترونيا، ولنتذكر أننا لسنا روبوتات آلية، بل بشر بأحاسيس ومشاعر، وذهن يتفاعل بالمحسوس، ويتقد باللحظة المعاشة.

عودة إلى مضمون المؤتمر فأشير إلى أن مصطلح الاستشراق قد ارتبط في قناعتي بالحركة الاستعمارية، وإن كان هناك من يرجعه إلى حقب تاريخية سابقة، بل وبعضهم يعود به إلى مرحلة مبكرة من التاريخ، لكن ذلك فاقد من وجهة نظري للسببية التاريخية، فالاستشراق مفهوم علمي وسياسي ظهر مع رغبة الساسة الأوروبيين في معرفة تفاصيل دقيقة عن طبيعة الشرق وحضارته بالتزامن مع نمو شبقهم الاحتلالي لأرض وخيرات الشعوب الأخرى، التي كان الشرق العربي والإسلامي أهمها، فكان أن وجدت دراسات الاستشراق التي باتت إحدى أهم الدراسات البحثية في الغرب، ونتج عنها العديد من الأبحاث والكتب المرجعية المهمة، بل وبات العديد من المعاهد والجامعات والمكتبات الغربية موئلا مهما لكل باحث عن الحضارات الشرقية إجمالا، وما يتعلق منها بالعرب والمسلمين بوجه خاص.

وفي المقابل، ظهر مؤخرا مصطلح الاستغراب، الذي كان المفكر المصري الدكتور حسن حنفي سباقا إلى الكتابة فيه والتوجيه إلى أهميته، لكنه أي (الاستغراب) قد جاء كرد فعل ثقافي معاكس في فكرته ومضمونه لموضوع الاستشراق، والفارق كبير بين المنطلقين.

إذ وبعد تحرر الغرب من مختلف القيود الفكرية، جراء ما عاشه من ثورة معرفية عبر ما عرف بعصر النهضة، ثم عالم الأنوار ونقد الأنوار وصولا إلى الحداثة، توجه عديد من الباحثين الغربيين إلى دراسة الشرق بمنهج علمي قد لا يرضي عواطفنا، وربما يستثير سخط البعض منا، لكن عديدا من دراساتهم قد أدت إلى كشف كنوز معرفية في ثقافتنا، والتي لم نكن لنتمكن من الخلوص إليها في حينه، وربما لم نكن لنعرفها في ظل ما كان سائدا من جهل.

ومن المؤسف الإقرار بأننا ننطلق في دراساتنا الاستغرابية ونحن نعيش أضعف حالاتنا على الصعيدين المعرفي والسياسي، فكيف سندرس مجتمعا لم ننعتق من أغلاله بعد؟ ولا نزال نسعى إلى التلبس بلباسه بأي شكل من الأشكال، فلغتهم نريد أن تكون لغتنا، ونسقهم الذهني نريد أن يكون نسقنا، ومظاهر حياتهم باتت واضحة في تفاصيل محيطنا المجتمعي، والسؤال المهم هو: من نستهدف بالدراسة في الغرب؟ هل نستهدف الغربيين أنفسهم؟ أم ذواتنا الغربية؟

كم نحن بحاجة إلى إعادة اكتشاف ذاتنا المعرفية بعقل علمي متجرد، بعيدا عن كل الأفكار المحنطة، وباستعادة نسقنا الذهني أيضا، ثم لننطلق في استكشاف الآخر أيا كان، وهو ما أرجو أن يتحقق معرفيا في قادم الأيام.

@zash113