علي المطوع

العدالة الإدارية

الاحد - 19 يوليو 2020

Sun - 19 Jul 2020

يتشدق بعض الظواهر الصوتية في عالمنا العربي بالعدالة وضروبها ودروبها، ويتخذونها وسيلة للتكسب والحضور، ويرمون الساسة بنصيب وافر من تدني مستوى هذه العدالة، ويرونهم السبب الوحيد في عدم تطبيق تلك المبادئ، ويطالبونهم دائما بأن يغيروا أحوال المجتمعات إلى الأفضل ليتسنى للناس العيش وفق عدالة تأخذهم إلى مرافئ السعادة وشطآن النجاة!

كل ذلك يجري وفق سياسات وصور مغلوطة يحاول من خلالها هؤلاء المخاتلون خدمة مصالحهم وأغراضهم المتمثلة في محاولة الوصول إلى مراكز صنع القرار والتنفذ، وبعد الوصول سرعان ما يتنصلون من وعودهم ويصبحون مشاريع ديكتاتورية، يعلو صوتهم فوق كل صوت، وهنا يحن البسطاء المستضعفون لسالف عهودهم ويبكون ضياع زمن كانوا فيه في حال أفضل وأوضاع أحسن.

تلك المقدمة أسوقها لتبيان المفهوم المغلوط للعدالة وغيرها، والذي يستحضر في مناسبات محددة من قبل أناس همهم اللعب على عواطف الناس واختزال تلك المفاهيم في صور هامشية لا تخدم إلا مصالح تلك الفئات التي يعيش أغلبها بحبوحة من العيش تتعارض مع المفهوم ومن يطالب بتحقيقه كمبدأ عدل ومساواة بين الناس.

المجتمع الإنساني في سلم درجاته الاجتماعية المختلفة يمارس بعض أفراده إقصاء وظلما ظاهرا ومقنعا لا تراه النخب المثقفة، أو المتعلمة أو بالأحرى لا يحاولون رؤيته ولا الوقوف عليه ومحاولة إصلاح خلله وتقويم اعوجاجه على الرغم من أنه يصب في مفاهيم العدالة والمساواة بمفاهيمها الشاملة لغة واصطلاحا، بسبب أن تبني مثل هذه القضايا لا يجلب لهم مكاسب سياسية واجتماعية على الأمدين القريب والبعيد، ولعدم توافقه مع مطامعهم وطموحاتهم الأخرى.

من صور ذلك الظلم ما يجري في المجتمعات الإدارية، سواء كانت حكومية أو تابعة للقطاع الخاص، ففي هذه البيئات الوظيفيه تنعكس وتتجسد أخلاقيات المجتمع الكبير وتظهر كل صور الجمال والعوار في تصرفات أعضاء هذه المنظومات، ومن خلال هذه التصرفات في تلك البيئات الإدارية نستطيع أن نتصور جزءا من المجتمع الأم ونعيد تقييم بعض مخرجاته ودراستها وإعادة قياسها كعينة عشوائية تُبحث، ومن ثم نستطيع من خلالها التقرير والتقعيد والوصول إلى نتائج تجعلنا نفهم المجتمع وأفراده ونتفهم دوافعهم ونزعاتهم المختلفة.

في مجتمعاتنا الإدارية تنعكس وتتجسد بعض أخطاء المجتمع الكبير وتصرفات بعض أفراده على هذا المجتمع الصغير، ويمارس بعض المتنفذين في هذه البيئات صورا من صور الظلم لشرائح من الموظفين لا توافق أهواء هؤلاء المديرين، لا لشيء إلا لكون هؤلاء النافذين يمارسون الإدارة والتنظيم بخلفيات اجتماعية خاطئة، وسلوكيات مجتمعية متطرفة تجعلهم ممتلئين بكثير من الصفات السلبية التي تجعلهم غير قادرين على تقديم نماذج إدارية مستنيرة ومنيرة.

بعض المديرين يختصون بعض الموظفين بحظوة غريبة تبدأ عادة من جلسات السمر والطرب في الشقق والاستراحات، وبقدر ما يسعد هذا الموظف مديره ويسهم في تدليله وخدمته بقدر ما يصبح من أكثر النافذين في قسمه، فهو المستشار والراصد الغائب والحاضر، له الدورات وخارج الدوام وشهادات التبحيل والاحترام، على الرغم من أن إنتاجيته منعدمة وانضباطيته تكون في الاستراحات والشقق واضحة جلية عكس بيئة العمل الأصلية التي لا يحضرها إلا عندما يستدعيه المدير أو تستدعي حالته المزاجية حضورا من باب المتعة وتغيير الجو فحسب.

هؤلاء الحواريون المصطفون وظيفيا لا يزعجهم سوى الموظفين الملتزمين بمهامهم الوظيفية، وبالتالي يرون فيهم خطرا يهدد مكاسبهم الدائمة، فمثلا هؤلاء الحواريون في إجازة مفتوحة لا حضور لهم ولا عمل سوى الوشاية ونقل الأخبار الملفقة واستهداف الناجحين بالإشاعات المغرضة، البعيدة عن مصلحة العمل والمنظومة بشكل عام، بل قد يصل ظلمهم وتجاوزهم إلى تأليف كثير من القصص أو اجتزاء بعضها وإعادة تقديمها في صور من المكر والخداع إلى صاحب الصلاحية في ذلك المرفق، والهدف من كل ذلك التستر على أخطاء المخطئين وإبعاد شبهة القصور عنهم وعن من يحتويهم.

البيئات العملية وما يصاحبها من ظلم وصور مخجلة من استهداف الناجحين المنتجين تستدعي حالة من الوقوف والتأمل والدراسة، خاصة من المعنيين بدراسة أحوال هذه المؤسسات وما ينبغي أن تكون عليه من رقي وسيرورة نجاح واضطراد تقدم، كون هذه الممارسات لها علاقة بكثير من المصطلحات الفضفاضة مجتمعيا، والتي تسقط خطأ في اتجاه معين وتتجاهل صورها المأساوية والممرضة في المجتمع، خاصة في بيئات الأعمال التي تستهلك العامل البسيط وتستأثر بكثير من عمره، خاصة أنه في مرحلة متقدمة من هذه التجربة يكتشف هذا المغلوب على أمره أن هذه الوظيفة قد استهلكت عمره وحرمته كثيرا من المتعة، فغياب العدالة الإدارية أحد منابعه الأصيلة غياب عدالة التعامل اليومية بين أفراد المجتمع نخبا وعوام.

وهذا يؤكد أن هذه التجاوزات الإدارية ليست منفصلة عن المجتمع الكبير، وأن الخطأ الأكبر يكمن في تجاهل هذه الصور أو جعلها صورا فردية لا تعكس المجتمع ولا ما يعانيه من تشوهات قيمية وأمراض اجتماعية تستدعي المرحلة وظروفها الوقوف عليها ومحاولة التخفيف منها ومن تبعاتها على الإنسان والمجتمعات والأجهزة الخدمية في القطاعات المختلفة، وهذه مسؤولية المفكرين والمثقفين ورجال الإدارة وصناع أنظمتها.

@alaseery2