مرزوق بن تنباك

متى يهب الله للبليهي لصا يذكرنا؟

الثلاثاء - 02 يونيو 2020

Tue - 02 Jun 2020

الأفذاذ من الناس قليل ولكنهم يوجدون على كل حال وأحيانا يستولي القلائل منهم على مساحة واسعة من التاريخ، ولا سيما أصحاب العدل وأصحاب النزاهة والعفة ومن يتولون الأمور لعامة الناس فيحسنون ويعفون.

ولعل أشهر شخصية في الثقافة الإسلامية والعربية الخليفة الصالح عمر بن عبدالعزيز، وكم بيننا وبين عمر من الزمن ولم ينقطع ذكر عدله واحترامه للمال العام وعفته وزهده فيه، ولا شك أنه قد وجد في التاريخ من هو مثل عمر بن عبدالعزيز، ولكن لسبب أو لآخر لم يستطع التاريخ حفظهم كما حفظ ذكر عمر وعدله.

ومن دون الخلفاء والسلاطين والولاة هناك مكانة في سلم المسؤولية لعشرات أو مئات كانت نزاهتهم وعفتهم وإخلاصهم لما يتولون من مسؤوليات فريدة لا يستطيعها غيرهم، لكنها تغيب معهم ولا يذكرها أحد بعدهم، والقليل منهم من يكون محظوظا لسبب أو لآخر، فيحدث أن يعيد التاريخ ذكره وينشره وقد يكون للصدفة عمل فيما يحصل له حتى ولو بسطو سارق على ما في جيبه.

ومناسبة هذا المقال شيء من ذلك، وهي قصة للقاضي السوداني عثمان الطيب علي، قاضي محكمة عليا ونائب عام للدولة ثم رئيس للقضاء في السودان، تقاعد وهو لا يملك سيارة ولا وسيلة مواصلات ويستعمل النقل العام، وحدث مرة أن جلس بجانبه لص وسلب محفظته فانتبه الركاب لعمل اللص وأخذوا السارق والمسروق إلى المحكمة، سأل القاضي حسن عثمان النور المسروق عن اسمه وعمله، فلما أخبره بعمله السابق وبكل المواقع العليا التي تولاها في القضاء وآخرها رئيس المحكمة العليا في عموم السودان بهت القاضي الذي ينظر القضية، أفي كل هذه المواقع العليا من دائرة القضاء ولم يجد بعد تقاعده سيارة تغنيه عن التنقل بين اللصوص والسراق؟ أثار الموقف نخوة القاضي ومروءته فأمر بتأمين سيارة خاصة للقاضي المتقاعد حالا فتم ذلك، وعند وفاته وجدوا أنه قد أوصى أن تعاد السيارة إلى الوزارة. هذه باختصار القصة السودانية.

ذكرني عمل القاضي ورئيس القضاء السوداني الذي خرج من كل مناصبه للتقاعد وهو لا يملك شيئا، ولو شاء لملك الكثير، ذكرني بالوجه السعودي من القصة أو بالصفحة السعودية منها، وهو شيخ مثله ولكن في مجال غير مجال القضاء، مجال المال والثراء والأخذ والعطاء والجاه أيضا، وهي الأرض وما أدراك ما الأرض في حاضرنا، تلك التي وصفتها في مقالة سابقة بالذهب الأغبر، ذلك هو الشيخ إبراهيم البليهي، وهو مثل سابقه خريج شريعة وكان بإمكانه أن يكون قاضيا مثل القاضي السوداني، ولكنه لأمر لا أعرفه اتجه إلى البلديات، ومن منا لا يعرف أهمية البلديات وقيمتها وأهمية أن تكون موظفا فيها ولو في أدنى درجات السلم الوظيفي، لتضمن الغنى والثراء العريض والمكانة عند علية القوم وخاصتهم.

والبليهي لم يكن موظفا عاديا، بل هو مثل صاحبه القاضي السوداني يتنقل من موقع تنفيذي إلى ما هو أعلى منه، رئيسا بلدية خميس مشيط ثم رئيسا لبلدية منطقة حائل، وبعد ذلك مديرا عاما للشؤون البلدية والقروية في المنطقة الشرقية ثم مديرا عاما للشؤون البلدية والقروية في منطقة القصيم، ومتى كان ذلك؟ كان ذلك يوم أن مراسل البلدية - وليس موظفها فحسب - يستطيع أن يكسب المال ويخرج بالثراء الذي لا يسأله أحد من أين جاء به، كانت المنح وكانت تجارة الأرض هي التجارة الرائجة للناس كافة، فضلا عمن يتولى قسمتها بينهم وتوزيعها عليهم.

انتهت قصة البليهي كما انتهت قصة القاضي ورئيس القضاء عثمان الطيب، خرج البليهي إلى التقاعد ولم يحصل على شبر من الأرض الموات مع كل هذه المواقع التي ملأت حياته وأغنت آلافا غيره، وسكن في بيت متواضع مستأجر في حي شرق مدينة الرياض.

انتهت القصتان، وبقيت العقدة، والفرق بينهما أن القاضي السوداني سلط الله عليه لصا كشف أمره للناس فعرفوا فضله وقدره واحترموا نزاهته وعدله. فعسى الله أن يهب للبليهي لصا يقتحم عليه بيته الذي لن يجد فيه غير بنية الجهل وأسبابه والتخلف وعواقبه التي قضى عمره يدير الأفكار فيها، ويحاول أن يجد طريقا لخروج أمته منها، وليت لكن هل ينفع شيئا ليت؟

Mtenback@