عبدالله الخرعان

التفكير الاستراتيجي واستشراف المستقبل

الاثنين - 11 مايو 2020

Mon - 11 May 2020

يعد موضوع التفكير الاستراتيجي الأكثر حداثة ضمن حقل الإدارة الاستراتيجية، مما يضفي على دراسته صعوبة مضافة إلى كونه في الأساس من المواضيع المرتبطة بالقدرات العقلية والذهنية ذات المستوى العالي، وهو ما يعقّد إجمالا محاولات تحديد مفهومه.

وقد استخدم مصطلح التفكير الاستراتيجي بشكل واسع في نهاية القرن العشرين وبالذات في إطار الإدارة الاستراتيجية، إذ يعد أحد مداخلها الأساسية. وقد حاول عدد من الباحثين دراسة مفهوم التفكير الاستراتيجي لتيسير عملية إدراكه وطرحوا لذلك مفاهيم عدة، كما أنهم سعوا إلى تحديده بشكل أكثر دقة من خلال تشخيص أبعاده وخصائصه.

ولذا جاء بمفاهيم متعددة، تباين بعضها في أسلوبها، وبعضها الآخر في الزاوية التي نظر من خلالها إلى مفهومه.

وحتى تتضح الصورة بشكل أوضح يمكن تحديد مفهومه بأنه: مجموعة من القدرات والمهارات الذهنية المنظمة والمركبة، والتي تنتج من خلال توظيف الحدس والإبداع في رسم التوجهات الاستراتيجية المستقبلية، في ضوء معطيات الحاضر، لتحقيق الريادة والميزة التنافسية.

وتبرز أهمية التفكير الاستراتيجي في كونه منهجا فكريا رياديا يتيح القدرة لتصور احتمالات المستقبل واستحضار الوسائل المطلوبة لمواجهة التحديات، وفي كونه نمطا يسهم في تحقيق المواءمة بين الإمكانات وواقع المنافسة عن طريق دراسة العلاقات المنظورة وغير المنظورة لمجمل الأنشطة وتداخلها مع مختلف الأنماط البيئية، حيث تتجسد فائدته الحقيقية من خلال رؤيته المتبصرة لمعالم المستقبل المطلوب، ما يمكن من حشد الطاقات وتحديد المسارات والتوجهات والتركيز على المقاصد، وحسن التعامل مع الأحداث والوقائع من خلال استثمار عنصر الوقت، والاستعداد بالحجم الكافي من الإمكانات الفكرية والمادية والبشرية في سبيل تحقيق الطموحات والغايات.

وإذا أردنا أن نحدد خصائص التفكير الاستراتيجي نجدها تتمحور حول عدد من الخصائص الشخصية والتنظيمية، فالخصائص الشخصية تمثل تلك القدرات التي يتمتع بها المفكر الاستراتيجي، وتؤكد شخصيته وتبين تفرده في نمط التفكير الذي يستخدمه في حل المشكلات والتعامل مع المواقف ذات البعد الاستراتيجي، وهذه القدرات هي: (الاستشرافية - الحدسية – الابتكارية – الإبداعية – النقدية).

وأما الخصائص التنظيمية فهي تنظم المؤشرات التي يستدل من خلالها على المفكر الاستراتيجي، والتي تتمثل في الخصائص الهيكلية والسلوكية.

ومن خلال العرض السابق نجد أن التفكير الاستراتيجي له علاقة وثيقة بموضوع استشراف المستقبل، وكأنهما أمران متلازمان، إذ إن الرغبة في معرفة المستقبل تعد حاجة فطرية. والوعي بالمستقبل واستشرافه في ظل التطور الهائل في هذا العصر، وفهم تحدياته واستثمار فرصه تعد من المرتكزات الأساسية لصناعة النجاح، سواء على مستوى الأفراد أو المنظمات والمؤسسات أو على مستوى المجتمعات، حيث إنه لا يمكن أن يتحقق النجاح ما لم يكن هناك رؤية واضحة لمعالم المستقبل. وهذا لا يتأتى إلا من خلال استخدام التفكير الاستراتيجي.

ولذا نجد كثيرا من قيادات بعض الدول المتقدمة تتبنى الأفكار المستقبلية التي يطرحها المفكرون وتسعى في ترجمتها إلى سياسات فعالة على أرض الواقع.

إن استشراف المستقبل يهدف بالدرجة الأولى إلى رسم صورة واضحة للمستقبل، من خلال منهجية علمية محددة تكشف عما يمكن أن يحدث مستقبلا، وذلك في ضوء معطيات الحاضر الذي نعيشه، ليس ذلك فحسب بل ويتخطى إلى إيجاد علاقات جديدة وإبداعية، يستلزم معها إطلاق العقول والخيال وصولا لوضع تصورات مستقبلية. وهذا هو العامل المشترك بين استشراف المستقبل والتفكير الاستراتيجي.

كما أن المتتبع لواقع هذا العصر - عصر الثورة الصناعية الرابعة - يرى تسارع المستجدات والتحديات التي تواجه البشرية وما يصاحبها من فرص ومخاطر، مما نتج معه أن الإنسان لم يعد يستطع الاستمرار في معالجة المشكلات عن طريق مجرد الاستجابة لها ومحاولة احتوائها فقط، بل لابد من التنبؤ بها قبل حدوثها استعدادا لمواجهتها من خلال إيجاد مستقبلات بديلة والاختيار من بينها بما يتناسب مع الإمكانات المتاحة.

إن التفكير الاستراتيجي واستشراف المستقبل ودراستهما من أجل وضع التصورات المستقبلية والتعامل مع المتغيرات السريعة والتهيؤ لها والتكيّف معها، ليس ترفا فكريا بل ضرورة يجب أن تنتهج، لأن المجتمعات - بأفرادها ومنظماتها - غير المستعدة للمستقبل لن تكون ريادية، وستفقد قدرتها على التعايش مع الغد ومنجزاته وستبقى مجتمعات تقليدية.

@a_kharaan2030