سالم الكتبي

«كورونا» وخارطة العالم الجديد

الأحد - 29 مارس 2020

Sun - 29 Mar 2020

لا شك أن تفشي فيروس «كورونا» عالميا بهذه السرعة وما تسبب به من تداعيات وخسائر بشرية واقتصادية قد أنتجا حقائق استراتيجية جديدة ستعيد رسم خارطة العلاقات الدولية، وتدفع باتجاه إعادة هيكلة المنظومات التي تدار بها الأمور في دول العالم كافة، فالارتباك الحاصل في معظم الدول والانكشاف أمام تهديد صحي عارم قد فضحا سلبيات فكرة العولمة وما تقوم عليه من مصالحية لا علاقة لها بالتعاون الدولي الإيجابي، وأثبت هذا أن كل ما يتردد من عبارات مقولبة حول التعاون والتضامن الدولي ليس سوى خطاب سياسي بروتوكولي لا علاقة له بالواقع، ولا وجود له في الحقيقة.

كشف «كورونا» عن غياب القيادة عن النظام العالمي القائم، وأكد أن ما يقال عن وجود نظام هرمي يقوده قطب أو أقطاب عدة ليس حقيقيا، فقد غرق العالم في مواجهة طوفان «كورونا»، وارتبكت كل المنظمات الدولية والإقليمية، التي أنتجتها حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وفي مقدمتها الأمم المتحدة بمؤسساتها ومنظماتها المتخصصة كافة، فلم يسمع العالم عن الاتحاد الأوروبي، وتجمدت آليات التعاون والتكافل بين دول منطقة اليورو بشكل يدعو للاستغراب، وبالتالي كان عاديا أن تغيب كل المنظمات الإقليمية التي تتصدر اجتماعاتها، وما تصدره من بيانات تقارير وسائل الإعلام على مدار العام!

تصدرت الخلافات والاتهامات المتبادلة فضاء العلاقات الدولية في واحدة من أصعب الأزمات التي تواجه العالم أجمع، وتزايد بكثافة الحديث عن المؤامرات واستمرت الخلافات والانقسامات بين القوى الكبرى على نحو يثير الغثيان، ففي الوقت الذي احتاجت فيه البشرية إلى التضامن والتعاون، تعالت الخلافات وارتفعت أصوات الاتهامات رغم أن الكارثة قد حلت بالجميع، ولم تنج منها دولة أو منطقة جغرافية معينة!

استطاع فيروس «كورونا» أن يفعل ما لم يفعله أي حدث عالمي آخر، وأن يتصدر الأخبار والأحداث، وأن يجمد الحياة في العالم أجمع على المستويات كافة، ودفع جميع الباحثين والمتخصصين إلى طرح تساؤلات عاجلة حول عالم ما بعد «كورونا» وكيف سيكون وما هي محدداته؟ وماذا سينتج من معطيات استراتيجية جديدة؟ وكيف سيؤثر في خارطة الهيمنة والسيطرة والنفوذ العالمية في السنوات والعقود المقبلة؟

كثيرون يتوقعون أن يسهم تفشي «كورونا» في تعزيز نفوذ قوى دولية معينة مثل الصين وروسيا، وأن يتسبب في تفكيك منظومات إقليمية عتيدة مثل الاتحاد الأوروبي، ولكنني أعتقد أن هذه استنتاجات سابقة لأوانها، وتقوم على انفعالات لحظية ووقتية تقفز على حقائق وثوابت كثيرة، كانت ولا تزال وستظل تحكم العلاقات الدولية.

صحيح أن الولايات المتحدة لم تلعب الدور المأمول منها كقوة عظمى وحيدة تهيمن على مفاصل النظام العالمي القائم، وأن نظامها الصحي لم يصمد في مواجهة خطر تفشي «كورونا»، بل تصدرت قائمة الدول الأشد معاناة من تفشي الوباء، ولكن هذه الأمور لا علاقة لها بأي تقييم موضوعي لمحددات القوة والهيمنة بين القوى الكبرى، فيجب ألا ننسى أن التهديد المعني يمثل خطرا جديدا لم تسلم منه قوى كبرى أخرى، فالصين لم تزل تعاني ولو بدرجة أقل مما سبق واستطاعت الخروج لمد يد العون لآخرين، ولكن يجب ألا ننسى أنها بدأت رحلة المعاناة من تفشي الفيروس قبل غيرها بفترة زمنية كبيرة، وأن العبرة في هذه الحالة ليس بما تسبب به من خسائر فقط، بل بقدرات الدول على التصدي وتحجيم الخطر ومعالجة آثاره والخروج من الأزمة بأقل الخسائر الممكنة، وهذه في مجملها معطيات لم تتكشف أبعادها بعد لأن الأزمة ما تزال مستمرة، ويصعب استكشاف مسارات تطورها وبالتالي نهايتها، وقد يكون من المبكر جدا التوصل إلى خلاصات منهجية جادة قائمة على مقارنات معيارية بين أداء الدول ومؤسساتها واقتصاداتها في مواجهة هذه الأزمة العالمية العنيفة.

واعتقد أن معظم ما يثار حاليا حول هيكلية النظام العالمي في مرحلة ما بعد كورونا هو في الحقيقة ينتمي في أغلبه إلى ما يعرف بالتحليل بالتمني، ولا يقوم على رؤية علمية حقيقية، وهذا ليس انحيازا، مع أو ضد طرف ما، ولكنها الحقيقة التي تقول إن الأزمة لم تنته بعد، وربما تكون في بداياتها، وبالتالي من غير المنطقي بناء استنتاجات نهائية حول مآلاتها ونتائجها وآثارها وتداعياتها.

صحيح أن أزمة تفشي «كورونا» قد كشفت سلبيات مؤسسية عميقة في دول تصنف تقليديا في صدارة قوائم التطور والتقدم على المستويات كافة، ولكن هذا الأمر سيقود العالم حتما إلى إعادة تعريف التقدم والتطور نفسه، ومراجعة ثوابت كثيرة ظلت تتردد في أروقة المؤسسات الدولية دونما فحص أو مراجعة أو وسائل تيقن من أي نوع.

الأمر المؤكد أن عالم ما بعد كورونا لن يواصل مسيرته وفق الآليات والمعايير والقواعد نفسها، فلن تعود الأمور كما كانت بعد أن جرت مياه كثيرة في قنوات العلاقات الدولية، فقد وجدنا الصين تقف وتتصدر داعمي إيطاليا، التي غاب الأقربون عنها، ولم تتلق هواتف روما صوت الشركاء الأطلسيين، بل وقفت بمفردها تقريبا في مواجهة تهديد جارف لشعبها بأكمله!

salemalketbiar@