زيد الفضيل

الأرض.. بيت الله

السبت - 21 مارس 2020

Sat - 21 Mar 2020

لم يمر على الإنسان المعاصر - فيما أعرف - جائحة أربكت حياته، واستلبت أمنه، وأثارت قلقه، كما نحن عليه اليوم في وباء كورونا العالمي المتفشي مؤخرا، الذي لم يترك أرضا إلا غشاها، فأقلق المضجع، وأهلك النفس، وقطع السبيل بين الناس احترازا ومنعا لتوسع انتشاره.

وكانت المملكة العربية السعودية سباقة إلى اتخاذ كل التدابير الاحترازية الداعية إلى منع انتشاره، وهي في ذلك تنطلق من واجب إنساني وديني، إذ أمر الله بحفظ النفس الكلية، التي جعلها مقدمة على كل شيء بما فيها كعبته المعظمة، حيث ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال حين رأى الكعبة «لقد شرفك الله، وكرمك، وعظمك، والمؤمن أعظم حرمة منك»، من أجل ذلك جاء القرار الاحترازي حاسما حين أعلن وقف الصلاة في الحرمين الشريفين وبقية الجوامع، باعتبارها أماكن يتجمع فيها عدد كبير من الناس، وبالتالي فحتمية انتشار الفايروس ونقل العدوى ستكون وخيمة بين العباد، وذلك هو عين المهلكة التي حذر الله من وقوعها. وصدق أبو تمام حين قال: فقسا لتزدجروا ومن يك حازما.. فليقس أحيانا وحينا يرحم.

كان ذلك القرار ولا يزال صائبا حتى لو أزعج عديدا من الناس، ممن نظر إلى الأمر بعاطفة بسيطة، ورؤية متواضعة، دون أن يعنيني أولئك المتصيدون الذين حدوا أنيابهم من وراء وجوه بانت رحيمة مندهشة، فوجدوا في القرار فرصة ليستثيروا البسطاء ويجيشوا العامة بقول هنا ولمز هناك، وباطنهم يملؤه الكيد لمجتمع تخلى عنهم حين رأى النور وفاق من غيبوبته، واستوعب حجم ما خلفوه من مصيبة جراء ما زرعوه من أفكار خاطئة طوال عقود عدة، ولعل ما نعيشه اليوم من تداعيات هي إحداها.

كان ذلك بعض حديث قلته لملهمي وأنا أستعيد معه ردة فعل البعض الحادة من قرار تعليق الصلاة في المساجد احترازا وحفظا للنفس الكلية الواجب حفظها، مشيرا إلى أنه قد تعزز في ذهن الناس بفهم خاطئ أن الصلاة لله لا تتم بنفس مطمئنة، ولا تكون كاملة، إلا في ذلك البناء المسجدي، غافلين عن أنها في أساس تكوينها وسيلة فردية لتعزيز العلاقة بين الله وعبده، مصداقا لقوله تعالى «يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»، وغير مدركين أن زيادة الفضل في أدائها كامن في تحقق الجماعة، التي هي اثنان وأكثر، دون أن يكون ذلك مخصصا بموضع معين أو بناء محدد.

تجدر الإشارة إلى أن ذلك كان وجه إشكال من سبق من الديانات السماوية وغيرها، التي حبست الناس في إطار محدد من القيد المكاني، فلم يكن بوسع أحدهم أن يتصل بالله الواحد القهار بشكل كلي وكامل دون وساطة من كاهن ورجل دين، وخارج حدود كنيسة أو معبد، حتى كان مبعث نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فعمد بأمر من الله ورحمة منه إلى تحرير الناس من تأثير القيد المكاني في علاقتهم بربهم، واتصالهم بالله القريب المجيب، إلى عوالم فسيحة في الفضاء الكوني، دون وساطة من أحد، أو التزام بمكان معين، فالأرض كلها لله، وقد جعلها لنبيه مسجدا وطهورا، وتلك خصيصة لم تكن لأحد من قبله أبدا.

من هذا المنطلق قرأ المؤمنون آياته المحكمات، وفهم المتبتلون حقيقتها وواقعها، فكان وعيهم عميقا واسعا بدلالة لفظة «مسجد» في كتابه الكريم، لتدل على كل أرض طاهرة جعلها الله مكانا صالحا لعبادته والسجود له، فكان فهمهم لقوله تعالى «ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم»، أي ومن أظلم ممن منع أرض الله الواسعة أن يذكر فيها اسمه، وهو ما تؤكده الآية الأخرى في سورة التوبة حين جزم الله بأن ليس للمشركين أن يعمروا مساجد الله في قوله تعالى «ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون»، أي ما كان لهم أن يعمروا أرض الله بقيمهم وأخلاقهم الفاسدة، وإنما ذلك مخصوص بمن آمن بالله واليوم الآخر إلى غيرها من الصفات الحميدة، مصداقا لقوله تعالى «إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين»، والعمارة هنا بالمعنى المجازي وليس الحقيقي.

على أن كل ذلك لم يمنع النبي وأتباعه من الاهتمام بتخصيص مواضع محددة لأداء الصلاة، تكون بعيدة عن دنس المارة، وطريق الدواب، لكن دون أن يفرطوا في زينتها، ويسرفوا في تشييدها، فالأرض كلها بيت الله، والإنسان هو القيمة العظمى على هذا الكون الذي أراد الله له الخير والنماء.

zash113@