عبدالله الأعرج

كرسي الحلاق والثقافة الدولية!

الاحد - 23 فبراير 2020

Sun - 23 Feb 2020

لم أر (أهذر) من الحلاقين والمحلوق لهم، فبمجرد أن يعتلي زبون صهوة ذلك الكرسي الأحمر أو الأسود، ينطلق الاثنان لاإراديا للحديث حول ما صغر وكبر من المواضيع، دون كلل أو ملل، وتذوب حينها كثير من المحددات مثل التدخلات الشخصية ومراعاة طبيعة الحديث وفوارق السن والتعليم!

ويحلو الحديث كلما صلصل المقص أو زنزنت المكينة، فتراهما - أي الحلاق والزبون - يجوبان العالم بأكمله، مبتدئين الجولة بكلام عن أحداث الساعة ومشاكل الأرض ثم ما يلبثا حتى يعودا أدراجهما لنبش الهموم الأسرية ومشاكل الحي، وقبل أن تتلى المعزوفة الأخيرة لمجفف الشعر ومشط الحلاق يكون الحديث قد وصل أوجه حول تجديد الإقامة وقسائم ساهر وخطر مرض كورونا المستجد، وإقفال المحل وقت الصلاة وقصات الشباب، ولا يقطع كل هذا الخليط من الهذرة سوى صوت المعلم وهو يضرب بيده على كتف ضيفه قائلا (نعيما)، ليكون الزبون الجديد في حالة إحماء لاستئناف هذه الملحمة الثقافية!

ولأن البشر بطبعهم يأنسون بالبشر، فإن هذه الظاهرة التي يمكن وصفها بالصداقة المؤقتة والبوح البريء بين الحلاق وزبونه يمكن أن تشكل ثقافة وصورة ذهنية عن الشعوب، أكثر بكثير مما تشكله المحاضرات وقاعات الجامعات وحجرات الدراسة، والمجلات ومواقع التواصل، لأن الاستطراد في الحديث بين الاثنين يسير في سياق واقعي حقيقي غير متكلف، بل وممزوج بمشاعر وشعور وصوت يعلو وينخفض، وملامح وجه تتجهم وتنبسط، بل إن الأمور تذهب أبعد من ذلك كاختيار الكلمات وكسر حواجز الممنوع (taboo) والتبسط في نقل المعلومة وخفض الكلفة الاجتماعية.

ولا يقف الأمر عند ذلك، فكرسي الحلاق معد للغاية، بحيث تلحظ أحيانا أن الحديث لا يقف بين الحلاق والزبون، بل ينتقل لاإراديا كذلك للزبون المجاور الذي يليه، ثم ما يلبث أن ينتقل لشخص أو أكثر من الزبائن المنتظرين، ليتحول الحديث حول موضوع ما إلى ما يشبه (السيمنار) الذي يكشف عن معتقدات الناس وموروثاتهم وأفكارهم حول موضوع معين، وكل يدلي فيه بدلوه وينافح فيه عن مبدئه!

لذلك فإنه من المثري ثقافيا بتقديري أن يكون للإنسان مدونة شخصية يهرع إليها بعد كل زيارة للحلاق، يدون فيها شيئا مما دار في تلك الزيارة، تكون بمثابة مرجع حول ثقافات البشر على اختلاف أجناسهم وأعمارهم وبلدانهم، مع ملاحظة ألا تتحول تلك المدونة (الالكترونية أو الورقية) إلى ما يشبه محاضر الاستجواب التي تسجل كل ما ينطق به الشخص، بل تكون مرجعا سريعا يشتمل على ما شد انتباه الزبون ثقافيا في تلك الزيارة للحلاق، والعودة لتلك المدونة دوريا للوقوف على تطور أنماط التفكير المجتمعي المحلي والدولي، بحثا عن وسائل أفضل لتصدير الثقافة المحلية واستيراد مثيلاتها العالمية.

أختم بالقول لمن بدا له الأمر غريبا بعض الشيء بأن كثيرا من الدراسات الأنثروبولوجية (علم الإنسان)، والسوسيولوجية (علم الاجتماع)، والسيكولوجية (علم النفس)، ودراسات الشخصية والأمن الفكري واللغات واللهجات وآداب الشعوب والتراث العالمي؛ تكون أكثر دقة وصحة حينما تنطلق من البيئات الطبيعية للبشر، ومنها: كرسي الحلاق، ورصيف الشارع، وطابور المخبز، وأروقة المستشفيات، وأثناء الرحلات الجوية، وداخل المقاهي والسينمات، وغيرها كثير، لأن كل هذه البيئات تعد أماكن طبيعية authentic لمشاهدة ومراقبة وتتبع السلوك البشري بأريحية وتلقائية، بعيدا عن التصنع والزيف اللذين أفقدا كثيرا من الدراسات بريقها ومصداقيتها، وبالمحصلة ضعف مخرجاتها، وبعد توصياتها عن واقع الحال، مما يحيل السلوك البشري إلى نظام ملائكي مثالي، بدلا من وصفه كما هو وإشباعه نقدا وتحليلا كما ظهر، والسلام.

dralaaraj@