زيد الفضيل

موت التاريخ

السبت - 25 يناير 2020

Sat - 25 Jan 2020

وأنا أقرأ استشهاد الصديق طارق زيدان بمقولة الكاتب المصري محمد حسنين هيكل «إذا أردت فهم شعب عليك تعلم لغته، وإذا أردت حوار شعب عليك تعلم تاريخه»، الوارد في مقاله الموسوم بعنوان استفهامي مثير، وهو: هل يعرف ترمب ديغول وهيكل وخريطة أمريكا؟

تذكرت بشيء من الأسى حال التاريخ المزري بين ثنايانا، الذي بات مادة ثانوية في حياتنا، وصار الحديث فيه نوعا من العبث أو لتمضية الوقت، بل وأصبح موضوعا لكل من قرأ مرجعا هنا وكتابا هناك، ليفقد ـ مع توالي الزمن ـ قيمته وأهميته، بل ومركزيته في التأسيس المنهجي لمختلف العلوم، وكثير من القرارات المصيرية؛ وفي تصوري تلك نتيجة طبيعية لانتفاء دراسة التاريخ بوصفه موضوعا ومادة علمية تقوم أساسا على استيعاب وفهم مختلف العلوم الإنسانية حال مناقشة النازلة التاريخية، ودراستها من ثمَ بذهن تحليلي، وعمق استراتيجي ضمن وعينا الأكاديمي، وطبيعة مؤسساتنا العلمية بشكل خاص.

وواقع الحال فلا غرابة في ذلك، إذ كيف نطالب الآخرين بشيء هو مفقود عند أصحابه أولا، وأقول ذلك بالجملة وليس على وجه التعيين والتخصيص، فحتما هناك عديد من الأساتذة المتخصصين الذين هم على وعي كبير بقيمة التاريخ وأهميته كمنهج علمي يسهم في إثراء الحاضر وبناء المستقبل بشكل إيجابي، غير أن تأثيرهم لم يعد كبيرا في ظل تنامي حالة التسطيح في عديد من الأبحاث والدراسات المنشورة من جهة، وبُعدها عن ملامسة الواقع والمستقبل حال المناقشة والتحليل من جهة أخرى، مما أفقدها تلك الحيوية التي لا تزال مستمرة في مختلف الأبحاث والدراسات الغربية بوجه عام.

وحتى لا أكون مجحفا في تصوري، أشير إلى حيثيات وسياق وشكل ونمط المؤتمر الأخير للجمعية التاريخية السعودية، الذي انتهت جلساته بمكة المكرمة في اليومين السالفين، حيث خلال ست جلسات، مدة كل منها 75 دقيقة، شارك في كل واحدة منها بين ستة وسبعة باحثين، ليصل مجموعهم 39 باحثا وباحثة، بمعدل عشر دقائق كحد أعلى لكل متحدث فيما لو استفادوا من الوقت كاملا، علما أنه تم اقتطاع وقت لمدير كل جلسة، وللمداخلات والتعقيبات بعد ذلك، وبالتالي تتضاءل حصة كل باحث إلى أقل من سبع دقائق، أو سيتجاوز وقته المعلوم لبضع دقائق معدودة وهو مرتبك، متابَع بحزم من قبل مدير الجلسة وزملائه في الندوة.

أمام هذا المشهد السريالي في مؤتمر علمي دقيق، ألا يجب أن نتوقف قليلا ونسأل عن الهدف من هذه الملتقيات السنوية المتخصصة؟ فإن كان الهدف الرئيس منها هو الاجتماع واللقاء وتمضية وقت سعيد، فلا غضاضة في حشر تلك البحوث في جلسات متتالية قصيرة المدى، وإن كان الهدف الرئيس هو المنفعة العلمية، فما القيمة والفائدة التي يمكن أن يجنيهما الباحث أولا من طرح ورقة لم يستطع إكمالها على مستمعيه ليعرف وجهة نظرهم على أقل تقدير بشكل متوازن، ناهيك عن الفائدة التي يمكن أن يجنيها المستمع أساسا؟

ثم ما الغاية من كثرة الأبحاث المقدمة ـ والله أعلم بمدى تفردها ـ في ملتقى سنوي الهدف منه تكريس الفائدة العلمية، وتعميق حالة الوعي من خلال تكريس حالة الإصغاء لأبحاث دقيقة متفردة في موضوعها ومضمونها وأسلوب معالجتها؟ وهو ما يحقق الغاية، ويعزز الإيمان بقيمة التاريخ وأهميته على الصعيد المؤسسي الرسمي والمجتمعي أيضا، وقبل ذلك وبعده يخلق حالة التنافس المحمود بين الباحثين وفق شروط ومعايير الحوكمة المتفق عليها.

أخيرا، أعرف أن مقالي سيثير حفيظة البعض، لكنه رأي من داخل بيت التاريخ ـ إن كان للتاريخ بيت يؤوي إليه أبناؤه ـ أردت من ورائه بث شيء من الحياة في موضوع صار هامشا في مدلوله ومخرجاته، ولا سيما أن صراعنا القادم مع الكيان الصهيوني سيكون صراعا تاريخيا بامتياز، في ظل استبسال المؤسسات العلمية الإسرائيلية في استلاب هويتنا، وتشويه تاريخنا، وقبل ذلك وبعده تصدير نفسها أمام المؤسسات العلمية الرائدة في العالم كمرجع تاريخي موثوق بمادته ونتائجه. والله المستعان.

@zash113