عادل الزهراني

الإنسان محرك «التجويد» الحضري

الجمعة - 03 يناير 2020

Fri - 03 Jan 2020

أثبتت العديد من التجارب حول العالم أن «قولبة» النسيج العمراني فقط بمنطق المجاورة والنفعية الاقتصادية أمر لا يحقق جزءا هاما من الإضافة المرجوة للرفع من مستوى عيش الإنسان ورقي حياته، حيث تقتصر هذه القولبة عادة على حلول مسقطة ومتأتية من قواعد مبدئية غير ذات أهمية بالنسبة للإنسان ككائن حي يفعل ويرد الفعل ويتعايش ويتفاعل في مثل هذه الأطر. فهذا الإنسان هو في نهاية المطاف جزء لا يتجزأ من «المحرك» الحضري، إذ بدونه لا تستوي أية غاية، اقتصادية كانت أو سياسية أو اجتماعية أو ثقافية.

فعلى سبيل المثال تعد مدينة روتردام محيطا حضريا ذا مستويات عالية من حيث أعداد وكميات المساكن الجماعية، مما جعلها تتناول بالعمل دون خجل ولا حرج ولا استحياء، برنامج تحسين ترعاه الدولة بمسمى «برنامج الفراغات الواعدة».

ويعتمد هذا البرنامج في المدينة على إعادة هيكلة المساكن القائمة القديمة، من خلال محاولة الاحتفاظ بالعائلات الشابة الأكثر ثراء أو الأيسر حالا وذوي المؤهلات التعليمية العالية.

وقد تم في هذا السياق بيع العقارات القديمة المستأجرة القائمة في المناطق الواعدة، وقدمت الدولة الدعم لهذه الأسر الشابة لتحسين مساكنهم ومحيطها (ركز معي هنا عزيزي القارئ حين قلت «ومحيطها!»). كما جرى بناء مئات من مساكن العائلات الشابة الجديدة والمستقلة في مناطق حول مركز المدينة، مع تعزيز مبدأ دمجها مع كثير من المساحات الخضراء ومناطق اللعب والجلوس والمشي فيها، بهدف إنشاء مدرستين ذاتي تصنيف محلي «امتياز أكاديمي» في كل مقاطعة يجري فيها تطبيق هذا البرنامج، بالتالي كانت الرؤية هي إعداد مبدأ الكفاية للوحدات العائلية بقصد منح أقرانهم من الأطفال فرصة اللعب مع أطفال آخرين في سن ما قبل المدرسة وكذلك المراهقين على حد سواء.

هذا وقد جرى كذلك تحويل الأماكن المفتوحة في غابة متنزه مدينة روتردام إلى ملعب طبيعي، يمنح الأطفال فرصة اللعب من خلال أنشطة غير معدة ومنظمة مسبقا. وهكذا يمكن للأطفال الاستمتاع بالتنوع البيئي والحيوي للفراغ «البري»، والتعرف على كيفية بناء الأوكار البرية وإشعال النار وعمل الطوافات والتخييم.

هذه الأمور التحسينية رفعت الوضع الاقتصادي للمدينة، حيث أصبحت تجذب سنويا نحو 35000 زائر، وأصبحت المدينة ذات موارد مالية ذاتية ساعدت في تحسين مشاريع تنموية أخرى.

أحد هذه المشاريع جرى خلالها تحويل بعض الملاعب المدرسية إلى ساحات ميادين مجتمعية، تتميز بفراغات للعب مميزة وعالية الجودة تنطلق من البستنة المجتمعية، لتصل إلى زراعة منتجات الخضار والفاكهة، كأعمال فلاحية يقوم بها الأهالي وصولا إلى المرافق الرياضية، مما يتيح للأطفال تجربة الحياة داخل المجتمع الأوسع. وهنا تأتي أهمية شعور الطفل بأنه جزء من منظومة حياة المدينة فيتجذر انتماؤه وتتعمق هويته الحضرية، فتنعكس إيجابيا على نمو وتطور شخصيته وذاته الاجتماعية.

ويجب التنويه هنا بأن سبب اهتمامنا بتقديم هذه التجربة الروتردامية هو أنها كرست ضمن تركيبة واحدة تجارب وخبرات إبداعية عدة في إدارة المدن وصناعة القرارات، مما يجعلنا نستشف بصفة واضحة أن التركيز على مبدأ التحويل إلى مدن المستقبل بالنسبة للإنسان بمختلف شرائحه العمرية من مراهقين وشباب وكبار سن وعائلات، هو أحد أهم أسس تجويد حياة هذا الإنسان، فهو يجري تحت مظلة تشجيع المجتمع المدني المتمثل في السكان المعنيين، لكي يكونوا جزءا من تطوير وتحسين المشهد الحضري، فيشعرون تبعا لذلك بأنهم جزء من عملية التغيير والمساعدة في الحفاظ على المنشآت الجديدة قيد الاستخدام، ويشعرون أيضا أن الممتلكات العامة هي بصورة جلية ملك لهم، فيحافظون عليها بأقصى الوسائل التي يقدرون عليها.

هذه التجارب والخبرات هي التي ارتقت بالمدن التي جرت فيها من خلال رؤية عملية طويلة المدى وصبورة، لتكون مدنا صحية اجتماعيا واقتصاديا وبيئيا للأطفال، وهكذا تكون من المسلّمات أن تُكرَّس لجميع الأعمار.

وما هذه التجارب والخبرات إلا قطرة في بحر تجارب لا يسع المقال إلى التطرق لها، وستجري لاحقا زيارة مدن أخرى وإحضار قصص نجاح فعلية حدثت فيها.

وما التعرض إلى مثل هذه التجارب إلا محاولة منا للمساهمة في رفع مستوى الوعي، وتثقيف المجتمع المدني عامة والمتخصصين، طلابا ومحترفين ..إلخ من حيث الأهمية الحيوية القصوى لدمج الإنسان كعنصر فاعل في صناعة المحيط الحضري «المؤنسن» الذي يهدف إلى مزيد من التفعيل والريادة في هذا الإطار الخصوصي.

@dradelzahrani