محمد أحمد بابا

الواقع لا يجامل

السبت - 21 ديسمبر 2019

Sat - 21 Dec 2019

هكذا هو الواقع، هو نتيجة تفاعل طبيعي بين كيمياء البشر وفيزياء الثقافة، فلا مجال لصناعة حدث بمقاييس دقيقة، والإنسان مهما بلغ من العلم لا يعدو جزءا صغيرا جدا من توجيه الخالق حين قال «وما أوتيتم من العلم إلا قليلا».

ومع أن هذه حقيقة يعرفها ويشاهدها كل البشر يوميا في أوطانهم وبلدانهم ومجتمعاتهم، لكن يظل الإنسان صاحب غواية وكذب وتمرد وكِبْر غير مبرر، جاعلا نفسه وصيا حتى على التاريخ الذي لم يحضره ولم يشهد عليه، وهو لا يعدو كونه جزءا ثانويا من توجيه الخالق حين قال «وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا».

أم الحقائق كلام ربي، أرشد النبهاء أن لا سيطرة على الغيب، فلا يعلمه إلا الله، ولو علمنا مقدمات حدوثه ومقتضيات وجوده بتركيب أفعال أو استحضار أسباب، فحراك المجتمع وتفاعله وتوقع السائد العام ليس ملكا لكتاب الصحافة ولا نشطاء الفكر ولا رواد الإعلام ولا الدعاة ولا الوعاظ ولا حتى الحكام والولاة، فكل ذلك جزء بسيط من توجيه الخالق حين قال «وتلك الأيام نداولها بين الناس».

من يلوم الناس في العموم والخلق بالجملة مزايدا على تدين أو سلام أو وطنية أو حضارة فهو كمن ينتقد التاريخ ولا ينقده، ويلوم الشيطان ولا يستعيذ منه، ويبكي على خروج أبينا آدم وزوجه من الجنة ولم يعرف الاستخلاف، وكل ذلك جزء يسير من توجيه الخالق حين قال «تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عما كانوا يعملون».

ومنقصة اليوم مكرمة الأمس، ومطلب الأمس جريمة اليوم، واسترداد طبيعة كاستعادة القيء، لكن الأجدى دراسة الظواهر وإمعان النظر في المعطيات الآنية واستنتاج الخلاصة بعبارة الحكم الوقتي، دون إغلاق نافذة احتمالية الخطأ وحتمية التغيير، وكل ذلك بعض من توجيه الخالق حين قال «ويخلقُ ما لا تعلمون».

فواقعنا اليوم - شئنا أم أبينا - أنتج ثقافة تختلف، وتحمس لتظهر نتائج جديدة، وأبصر المفكرون معطيات لم يكونوا يعرفونها، وتنامت في الناس مهارات أصبحت جدارات، وقدرات أضحت كفايات، والمعول عليه هو الحالة التي عليها مادة الحكم ووقود النقاش، وليس المعول على محفوظات الماضي ولا تراثيات القناعات.

لذلك فإن ظلم المجتمع على يد المنظرين تحفيز لكسل في زمام المبادرات، وإقعاد للراغبين عن تطور التناول وتحسين المخرجات. وترك خلق الله لله، يتقون الله ويعلمهم الله ما لم يكن يعلمه آباؤهم وأجدادهم؛ فعل حسن لمن لا يستطيع مواكبة التغيير، أومجاراة التسارع، أو تحمل الإبداع، فالواقع لا يجامل أحدا.

albabamohamad@