ياسر عمر سندي

العلاج الجمعي المعرفي

الأربعاء - 25 سبتمبر 2019

Wed - 25 Sep 2019

لكل واحد منا قدراته الخاصة التي منحها إياه الخالق جل وعلا، وهذه القدرات تعتبر أوعية مختلفة صادرة وأخرى واردة تقوم على خاصيتين رئيستين، أولاهما خاصية الجذب والاستحواذ الانتقائي للاستفادة الشخصية، والثانية خاصية النقل والتشارك العام مع الآخرين لإفادة الغير، وهاتان القيمتان البارزتان تتكاملان فيما بينهما لإحداث التوليفة التبادلية داخل المجتمع الواحد، فالبشر جميعهم مخلوقون بأنماط متعددة، ومجبولون على ثقافة الاختلاف، وهذه الأخيرة هي التي تؤدي إلى الإثراء الفكري والتراكم المعرفي المؤدي حتما إلى نهضة المجتمعات ونموها وديمومتها، قال تعالى (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) الحج الآية 40.

فالناس في لهفة وعوز دائمين إلى ما يدفع بعضهم إلى البعض في سعيهم التنافسي لتلبية وسد حاجاتهم الشخصية والعامة والتي تنتج جراءها معرفتان، أولا «المعرفة الكيفية» التي تتمثل في توليد المهارات والأفكار والإبداعات لإيجاد الحلول الجذرية لكثير من المسائل الحياتية، وثانيا «المعرفة السببية» التي تتركز على إيجاد العلل الكاشفة للاختراعات بمختلف أصنافها وألونها وأشكالها، وتسليط الضوء على العلاقات بين هذه الأسباب من منطلق قوله عز وجل (إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا) الكهف الآية 84.

فالمعرفة السببية والمعرفة الكيفية تقودان إلى التمكين وتنمية مدارك الخلق وإعمار مكامن الأرض واكتشاف نواحي الرزق.

والعلاج الجمعي ما هو إلا استراتيجية ذات فوائد متعدية عظيمة تشتمل أيضا على مجموعة من المعايير الإيجابية التي تبحر بمعونة دفتين رئيستين تساعدان رزق الحياة على إحداث التوازن البشري لمكملين هامين هما الإشباع النفسي والانتفاع المعرفي.

فإذا استقر الشخص وتمتع بصحة نفسية عالية انعكس ذلك على تقبله للبحث والتحري في مختلف المعارف، والعكس صحيح، بمعنى أننا في حاجة ماسة إلى إجراء جلسات جماعية على مختلف الأصعدة والأنشطة والاهتمامات.

ويمكن أن يبدأ كل شخص في المجتمع بمبادرة ذاتية على مستوى أسرته وعائلته المقربة بعمل تشخيص مبدئي لما يعرفه عنهم بحكم الالتصاق والعشرة، وما هي نواحي القوة والضعف لديهم، وما هي الفرص المتاحة، سواء كانت علمية أو عملية أو مهارية يمتاز بها كل فرد، ويحرص بشكل أسبوعي مرة أو مرتين على عقد اجتماعات ملزمة يضم فيها كل أعضاء أسرته المكونة منه ومن زوجته وأبنائه وبناته صغارا وكبارا، وتسجيل كل اهتماماتهم الشخصية وهواياتهم الابداعية، ويتم تكليف كل عضو منهم بالتحدث عن تلك الخبرات وتوثيقها وكيفية استثمارها، عبر مراحل زمنية يتم الاتفاق عليها خلال عام واحد يقسم إلى أربع مراحل، كل مرحلة ثلاثة أشهر، تبدأ بالتحليل للمعرفة الكامنة واستنباطها، ومن ثم إطلاق المعرفة الخاصة وتدويرها على الأعضاء، ويليها تخزين تلك المعرفة الخاصة وتحليلها وتسجيلها، والوصول إلى تنفيذ تلك المعرفة وتطبيقها على أرض الواقع لكل عضو من الأعضاء المجتمعين، وأخيرا استقراء تلك المعرفة وتعميمها وإعطائها لكل من يحتاجها مجتمعيا.

فإذا استشعرنا ذاتيا ومجتمعيا مدى الفائدة التي تعود علينا بالنفع المعرفي في جميع نواحي الحياة نستطيع من خلالها أن نسحب تلك التجربة ونطبقها على واقع تجمعنا العملي في المنظمة، وواقع اجتماعنا بالأصدقاء في الديوانيات والاستراحات والصالونات الثقافية والنوادي وغيرها كثير من التجمعات التي تطرح الخير الكبير من المعرفة المتنوعة والمختلفة، خاصة في هذه المرحلة التي تتطلب التحدي القادم في استنباط المعرفة الضمنية الكامنة والدفينة لدى كل فرد وإظهارها كمعرفة عامة مستفادة، فالعلاج الجمعي يكمن في التشارك المعرفي.