مرزوق تنباك

التلوث المعرفي

الثلاثاء - 03 سبتمبر 2019

Tue - 03 Sep 2019

التلوث الذي تنفثه المصانع في السماء العريضة مفتوحة الأجواء لا يلبث أن يتكاثر ويقوى ويتكثف حتى يغطي المدن ويؤكسد هواءها ويفسده، وهو خطير على الصحة وعلى البيئة، وتأكسد الهواء يعكر الجو والحياة ويسبب الأمراض المستعصية والمزمنة القاتلة، ويمنع الهواء النقي من القيام بوظيفته الطبيعية التي يجب أن يقوم بها. ولمحاربة هذا الوباء العالمي تقوم جماعات كثيرة في الدول والأحزاب والمنظمات الأهلية والحكومية بجهود مقدرة وفاعلة لتقليل أبخرة المصانع ولطرد التلوث البيئي والتقليل من أضراره، وتعلن تلك المنظمات خطورته على الناس وتكافح تكاثره وانتشاره، وهناك أحزاب سياسية تعد برامجها معلنة الحرب على مصادر التلوث كأحزاب الخضر في أوروبا.

لكن ليس هذا هو التلوث الموجود وحده، هناك أنواع كثيرة من التلوث الذي تتعرض له عقول البشر فيعكر الحياة ويفسدها عليهم، وقد يكون أخطر من تلوث الهواء وأكسدته، ليس على صحة أجساد الناس، ولكن على صحة عقولهم ومداركهم وتصرفاتهم وسلوكهم، ذاك هو التلوث المعرفي الذي يغطي العقول والأفكار ويفسدها ويحجب أداءها ووظيفتها في المجتمع، ولا يشعر بخطورته ووجوب حربه ورفع الضرر عن عقول الناس من هذا التلوث الرهيب إلا القليل.

أما الكثرة مع الأسف الشديد فهي إما مع من ينفث سموم التلوث المعرفي في كل الاتجاهات أو من يسكت عنه أو من لا يدرك خطره على بلبلة أفكار الناس وتسميم مفاهيمهم وقناعاتهم في شؤون الحياة وشجونها، وحين ندرك ما يصيب الثقافة العامة وما يؤكسد الذائقة الجميلة في طرح الأفكار ومعالجة القضايا، حينها ندرك خطورة التلوث المعرفي الذي أصبحت وسائل التلقي الكثيرة تبثه وتنشره في الآفاق، وهي متاحة للناس منتشرة في مساحة واسعة تملأ الفضاء السيبراني الذي ينقل بحرية تامة كل ما توسوس به نفوس البشر وأفكارهم ومعتقداتهم الصالح منها وغير الصالح والمقبول منها والمرفوض.

وكل ينفث مخزون عقله ويعلن رأيه ويلقيه كيفما اتفق حتى تلوثت الرؤية لدى الشباب خاصة، لأنهم في الغالب يواجهون فوضى النشر وسرعة التواصل واختراقه السريع لجهات الدنيا الأربع وليست لديهم حصانة فكرية مانعة، ولا شك أنهم يحسنون التعامل مع التطبيقات التي تمكنهم من المعلومات فيأخذونها من ثقافات شتى وأعراف مختلفة وأذواق متباينة، ولكنهم قلما يستطيعون الفرز المناسب لما يجب أن يأخذوا وما يجب أن يتركوا عند تحصيلها، فتأكسدت النظرة السليمة للأمور العامة والهموم المشتركة وضاع السداد في الرأي، وصار الإصلاح صعب المنال لأن الخيارات أو حتى الفرز للصحيح من الخطأ غير ممكن عمله في هذه الأجواء المشحونة بفيض من الشهوات والرغبات والحاجات والمتطلبات، والحديث عن الذات التي يطغى الاهتمام بمصالحها وما يتفق مع توجهها.

في هذا الفضاء السيبراني المفتوح اضطربت القيم المعرفية وتشابهت الثقافات أو قل تقاربت وأصبح الحكم المتعجل هو ديدن أكثر الذين يتعاملون مع الكم الهائل من الأضداد والمعلومات حين تبثه وسائل التواصل الميسرة والمسيرة، وكل يضع فيها ما يمليه عقله وما يقبله حسه وذوقه، ثم ينشره ويعلنه، فيتلوث العقل الذي يقرأ تلك المتناقضات وتتلوث الذائقة العامة لمن لم يستطع إعمال النقد الذاتي للمعلومة حين تصل إليه، فلا تتأثر ذائقته فيما يكرر أمامها من أساليب التشتت والاختلاف والتناقض في كل شيء، وليس كل أحد يستطيع أن يضبط الروابط الممكنة بين الأشياء وأضدادها، وعندئذ تتكلس طبقة عازلة كثيفة من التلوث الثقافي الضار على بعض العقول والمدارك.

Mtenback@