حذامي محجوب

نحن والذكاء الاصطناعي

الأربعاء - 19 يونيو 2019

Wed - 19 Jun 2019

لست مختصة في الذكاء الاصطناعي ولا مشتغلة عليه، ولا أؤمن بالتخصص الذي يبقي الإنسان معزولا في مجاله غير مهتم بما يجري خارجه، إني أؤمن فقط بأن نمو أمة لا يتحقق إلا بوعي كامل المختصين فيها في جميع المجالات بالتحديات المطروحة على الأمة في الزمن الذي يعيشون فيه وتضافر جهودهم للإعداد للمستقبل، والدليل على ذلك أننا نجد اليوم أن أكبر المبشرين والمحذرين من عواقب الذكاء الاصطناعي في أوروبا وهو "لوران ألكسندر" هو طبيب جراح، كما أن القائمين على مخابر الذكاء الاصطناعي في أمريكا وآسيا وكل البلدان الغربية ينتمون إلى اختصاصات مختلفة، من هذا المنطلق جاء وعيي بهذه المسألة وحرصي على تحسيس القراء بها، إنها مسألة تمس كل المجالات وكل الاختصاصات، بل تمس طريقة عيشنا وطريقة إقامتنا في الحياة نفسها، ولذلك أعتبر أنه من الأولويات اليوم الحديث في عالمنا العربي عن الذكاء الاصطناعي، إنه موضوع يهمنا، وإننا معنيون به إذا أردنا أن نكون داخل التاريخ وليس خارجه، وإذا أردنا أن نضطلع بمسؤوليتنا التاريخية تجاه الأجيال القادمة، لعله أوكد المواضيع اليوم وهو يستحق التوقف والنظر، وعلينا أن ننسى خلافاتنا ونركز عليه قبل فوات الأوان.

ما هو الذكاء الاصطناعي؟ وما المقصود به بالضبط؟ إن الذكاء الاصطناعي هو مفهوم ينسحب على واقع معقد ومتعدد ولكن لا وجود لهذا الواقع في نفس الوقت. وفي الحقيقة، إلى يومنا هذا لا نجد تعريفا وحيدا وقع عليه الإجماع، ولكن أكثر التعريفات انتشارا وتداولا هو أن "الذكاء الاصطناعي هو برنامج قادر على إنتاج مقاطع وقدرات معرفية للدماغ الإنساني" وتكون الغاية القصوى منه هي صنع "دماغ الكتروني" يقع فيه تعويض الخلايا العصبية بـ "خلايا رقمية" ويبدو أننا ما زلنا لم نبلغ بعد هذه الغاية ولكنها آتية لا محالة وفقا للتطور السريع الذي بات عليه الذكاء الاصطناعي اليوم. فالذكاء الاصطناعي يتأسس على "الآلة المتعلمة" مثلما يتعلم الأطفال الصغار، وكذلك التعليم العميق الذي هو مرحلة متطورة بالنسبة "لتعليم الآلة".

وكما يتطلب تعليم الأطفال جملة من المعطيات، فإن "تعليم الآلة" يتطلب بدوره عددا هاما من المعطيات، فعلى سبيل المثال يكفي أن نعرض على طفل صغير بعضا من الصور لحيوان معين حتى يدرك الحيوانات الأخرى ويتعرف عليها من تلقاء نفسه، لكن يكون الأمر أكثر صعوبة وتعقيدا بالنسبة للآلة، فتعلمها يحتاج إلى ملايين أو قل إلى عشرات الملايين من المعطيات لكي تصل الآلة إلى اكتساب ما توصل إليه الطفل، وهذا لا يحصل كذلك إلا بامتلاكها قدرة كبيرة على الحساب وعلى تخزين المعلومات. ويمكن أن أذكر هنا التطورات الرائعة التي وصل إليها الذكاء الاصطناعي منذ سنة 2015 وهي بالخصوص: التعرف على الوجه، تركيب الصوت، الترجمة، تأويل الصور.

وتجدر الإشارة إلى أن هذه التطورات قد تحققت نتيجة تضافر ثلاثة عوامل بالأساس، وهي توفر طرق الحساب وتخزين المعطيات التي هي في تطور مذهل مع قدرات تعد بمليارات العمليات في الثانية الواحدة - إلى جانب التطور الجوهري لعلوم الخلايا العصبية التي أتاحت لنا معرفة دقيقة بالعمليات المتحكمة في اشتغال دماغ الإنسان - وأخيرا توفر عدد كبير من المعطيات "بيغ داتا" بفضل الكمية الهائلة من المعطيات المتاحة بصفة مجانية وذلك باكتساحها كل يوم للشبكات الاجتماعية.

إن هذا الثلاثي - المعالجات الدقيقة- تطور علوم الخلايا العصبية و"بيغ داتا" يؤذن بقيام ثورة جديدة سيكون لها تأثير لم يسبق له مثيل على الحضارة الإنسانية، ومن المرجح أنها ستخلق هوئات كبيرة إذا لم يقع اتخاذ إجراءات حيوية وتدابيرمناسبة وتنسيق على مستوى دولي.

ستخلق هذه الثورة هوّات بين البلدان، وكذلك هوّات داخل البلد الواحد، وحتى بين الأفراد. وستكون هذه الهوّات بين من يملك الذكاء الاصطناعي و"بيغ داتا "، ويقوم باستغلاله وكل الذين هم خارج الذكاء الاصطناعي.

وفي ظل هذه الوضعية سيتغير كل العالم في المستقبل القريب أي بين سنة 2030 وسنة 2040 وسيكون العالم مختلفا تماما عما هو عليه اليوم. سيتغير التعليم لأن المهارات التي سيطالب بها المتعلمون ستكون مختلفة تماما مواكبة للواقع الجديد، سيتغيرالطب وستتغير البنوك وستندثر العديد من المهن وتبرز مهن جديدة، كل شيء سيتغير: النقل، المبادلات.. وسيكون من المحال تقريبا الحفاظ على حياة خاصة.. وسيصل تأثير هذه التغيرات الى مجالات الأخلاق والفلسفة والسياسة والثقافة والمجتمع وحتى البيوت.

وتجدر الإشارة إلى أن هذا ليس بعيدئ، فالطفل الذي يولد اليوم أو حتى الذي يزاول دراسته اليوم في التعليم الابتدائي سيكون كبيرا بما يكفي سنة 2040 وسيقضي جزءا كبيرا من حياته زمن ثورة "الذكاء الاصطناعي" لذلك فإني أعتبر أن مسألة الذكاء الاصطناعي تهمنا وتعنينا لأنها تتعلق بمصير الأجيال القادمة من أبنائنا وأحفادنا وأنه من واجبنا الإهتمام بها والإعداد لها، وأنه يجدر بنا عوض الانصراف إلى الخصومات السياسية وإضاعة الوقت في الحوارات العقيمة ذات النعرات الطائفية والعرقية أن نفتح حوارات جدية ومسؤولة حول مواضيع ستحدد حياة الأجيال القادمة، لأنهم سيعيشون في زمن وعالم تسيطر عليه المعرفة بصفة مطلقة، عالم لن تقع فيه الحروب عن طريق السلاح أو الاقتصاد مثلما هي عليه اليوم، ولكن ستكون الحرب من الآن فصاعدا عن طريق الذكاء الاصطناعي "حرب الذكاء" أو "صراع الذكاء" هذا هو المستقبل القريب.