أحمد الهلالي

تبا .. يركلون اللغة ويتباكون عليها!

الثلاثاء - 11 ديسمبر 2018

Tue - 11 Dec 2018

لا شك أن لكل عصر متغيراته، ولكل زمن حراكه المختلف عن سابقه، مما يؤكد حياة المجتمعات وتطورها وترقيها، وهذا ما نسمعه في معظم الأطروحات الحوارية والإعلامية، وننادي به أيضا، فالجمود هو البقاء على تصور واحد، لا يقبل المراجعة ولا التغيير، هذا من جهة ضرورة التغيير والتماشي مع المراحل الزمنية، ومن جهة أخرى فلكل ثقافة ولكل مجتمع مرتكزات وثوابت يجب كذلك أن يحافظ عليها، وأن يكون حذرا جدا من المساس بها.

سبق أن كتبت مقالة في هذه الصحيفة الغراء عن (أدبنا الشعبي) وضرورة أن نلتفت إلى هذا الأدب بكل مكوناته، خاصة القديم منها، وأن نوليه عناية الدرس والتحليل من زواياه الأدبية الإبداعية، ومن زواياه التاريخية الوثائقية، وما سجل من أحداث، وكذلك غربلته وتحقيقه، والوقوف على المنحول فيه والأصيل، وهذا دور النقاد والأكاديميين في مؤسساتهم، فإخضاع هذا النتاج الهائل للدراسة سيكون له أعمق الأثر في فهم الحقب الماضية وإنسانها، إذ كان حضور الأدب الفصيح فيها نادرا أو شبه منعدم.

لكن المؤسف اليوم أنه في ظل وهج الأدب الفصيح تتعالى الدعوات إلى فتح باب المؤسسات الثقافية لحضور الأدب الشعبي، مع أن لهذا الأدب حضوره المتوهج في المهرجانات الكبرى كالجنادرية وسوق عكاظ والمهرجانات السياحية والاحتفالات الوطنية، وله منابره الإعلامية الضخمة والمتعددة، وسيطرته على أوسع مساحة في الفنون الصوتية (الأغنية والشيلة والعرضات والفلكلور).

والمؤسف أكثر أن بعض المؤسسات الثقافية استجابت لهذه الدعوات ونفذت بعض فعالياتها بالشعر الشعبي، ومنها ناد أدبي احتفى بذكرى اليوم الوطني الـ 88 بالقصيدة الشعبية، دون التفات حتى لما تتضمنه اللائحة الأساسية للأندية الأدبية الصادرة عام 1395هـ، والمادة الثابتة في كل تحديث لهذه اللائحة، والمؤسف كذلك أن يجد هذا الفعل (الشنيع) القبول ـ أيضا ـ بين بعض النخب المثقفة، ويكون التنظير له من باب المسايرة للجذب الجماهيري، مع لغة توحي باتهام مخالفيها بالتعنصر والإقصائية.

الأدب الشعبي، خاصة (الشعر) منه، يجد عناية فائقة ومنابر شتى، ولكن توسيع تلك العناية بمزاحمة الأدب الفصيح على منابره أراه ـ من وجهة نظري ـ تنازلا لا مبرر له، إلا اعتراف المؤسسات والأدباء والمثقفين بعجزهم عن التأثير وجذب المتلقي، وهذا لا يبرر فتح الباب لاحتلال الشعر الشعبي للمؤسسات الثقافية، بل يجب أن تراجع المؤسسات الثقافية آلياتها وطرقها في تقديم الأدب الفصيح وخدمتها له، فنحن في مرحلة التغيير فعلا، لكن بالتقدم إلى الأمام، لا بالنكوص إلى الوراء.

ولنعلم أن المشكلة تنحصر في المؤسسات والمثقفين، فلنتأمل المعادلة الآتية: لا يشكو الشعراء الشعبيون من قلة المنابر، لكن تشكو المؤسسات الثقافية من قلة الجماهير، وهذا هو العجز الذي تحدثت عنه، فالمؤسسات الثقافية لم تخدم القصيدة الفصحى، والمرحلة مواتية اليوم في ظل الانفتاح الحقيقي على الفنون أن تبادر هذه المؤسسات إلى تقديم القصيدة الفصحى في قالب الأغنية أو الشيلة أو النشيد أو الإلقاء المصحوب بالآلات الوترية، وتستطيع تقديم الأدب الفصيح عبر الوسائط الالكترونية القصيرة، كمقاطع الفيديو والصورة والرسم الالكتروني، وتستطيع بث فعالياتها عبر المواقع الالكترونية بكيفية مباشرة ومسجلة، فإن لم يحضر الناس إلى القاعات المغلقة سيتابعون من أماكنهم بيسر وراحة، وهذه هي المسايرة الحقيقية للمرحلة، ولنتذكر أن الذائقة الاجتماعية تغيرت وارتقت كثيرا.

من جهة أخرى لا أنكر تطور الشعر الشعبي، ورقي مضامين شعرائه، وتجاوز بعضهم للعنصرية و(الهياطية) والخطابات الحمراء، والصفراء، ولا أنكر تذوقي وكتابتي له سابقا، فهو يحاصرنا من كل جهاتنا، لكن يجب أن يظل في سياقه، وألا نختلق المبررات لإدخاله إلى المؤسسات الثقافية، في الوقت الذي تجأر فيه منابر هذه المؤسسات (في 18 ديسمبر من كل عام) بالشكوى على حال اللغة العربية وضعفها لدى أجيالنا، ويتهامس الأكاديميون (مفجوعين) من عدم معرفة طلابهم لمحمد الثبيتي ومحمد العلي وحسن القرشي وطاهر زمخشري وحمزة شحاته وجاسم الصحيح ومحمد يعقوب، وآلاف من شعرائنا الأحياء والموتى، ولا أعد هذا إلا فصاما حقيقيا يجب علاجه، وتدخل الجهات المسؤولة لإيقاف هذه الانهزامية والهروب إلى الخلف.

ahmad_helali@