عندما تصبح الشيخوخة حلا..!

الخميس - 24 مايو 2018

Thu - 24 May 2018

منذ ولادتنا نتخطى عدة مراحل من عمرنا تتشكل فيها هوياتنا وسلوكياتنا وتعاملاتنا وتوجهاتنا وأيديولوجياتنا مع ذواتنا وغيرنا في المجتمع، والأهم من ذلك هو التنشئة الفطرية السليمة إلى أن نصل لمرحلة التكليف وتوعيتنا بكيفية التعامل مع خالقنا ومحيينا ومميتنا، والتي نستمد من خلالها التعامل الفعلي مع كفتي الميزان البشري للخير والشر والحق والباطل والحسنات والسيئات، فمن أحسن له الحسنى ومن أساء فعليها، قال تعالى «ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا» سورة نوح الآية 13-14، ولكل من هذه المراحل لذتها ورونقها وبريقها. وسأستعرض هذه المراحل كنوع من السرد المقتضب للوصول إلى المرحلة المنشودة في سلوكياتها وتعاملاتها مع الغير وهي «الشيخوخة»، والتي تستقر فيها النفس وتطمئن وترتقي إلى أعلى مراتب الوقار.

فمرحلة ما بعد الولادة وهي أحوج مرحلة يلتصق فيها الوليد بأمه ولا يكاد ينفك عنها وهي مرحلة «الرضاعة»، تعتبر حساسة جدا لتجهيز الشخصية وتثبيتها للمراحل القادمة في زمن مدته حولان كاملان، وهي فترة مقدرة من العزيز الحكيم لتكتمل الصحة للبنية الجسمية وأيضا الاستعداد لتشكيل البنية النفسية، وتأتي بعدها مرحلة «الطفولة» وتكون عادة ما بين السنتين إلى التسع سنوات، وتقسم إلى مرحلة ما قبل التمييز إلى الست سنوات ومرحلة التمييز من ست إلى تسع سنوات، والتي تتم فيها كل عمليات وطرق الجذب والالتقاط والنمذجة السلوكية من الوالدين ومن حولهم، فالأطفال يقلدون جميع الحركات والسكنات والألفاظ والعبارات والإيماءات، وهي مرحلة أسميها «المستودع»، إذ يخزن فيه الطفل كل السلوكيات الخيرة والسيئة ويستدعيها أو ينبش ما في هذا المستودع ليظهره إلى النور في مراحل متقدمة من عمره، لتتحول هذه السلوكيات من عادة دخيلة إلى عادة أصيلة يصعب التخلص منها، فالحذر كل الحذر أيها الوالدان والمربون ومن أوكلوا مهمة التربية من أن ينقلوا عنكم غير كل ما هو حسن من تصرفات وأحاديث وأفعال.

وتأتي مرحلة «اليفاعة» والترعرع حيث تبدأ من سن العاشرة تقريبا إلى السابعة عشرة، والتي يبدأ معها التكليف الفعلي لأداء الصلوات والتنبيه المتدرج السلس من النصح إلى المحاورة إلى الضرب البسيط على الكتف والذي أعتبره أعلى قليلا من الربت، فهذه المرحلة للجنسين مرحلة التحديد الفعلي للهوية والإرشاد الوالدي لها بالطرق السلمية بالاحتواء والاستماع والمحاورة تجنبا للنفور والابتعاد، وأيضا تعزيز دور الأب والأم فيها أكثر ومن هم في حكمهم بتربية الأبناء التربية الصالحة وتعويدهم على الاحترام والتهذب في سلوكياتهم وتحاورهم والاهتمام أكثر بالنظافة الشخصية والمكانية.

وبعد ذلك تبرز مرحلة «الشباب» والعنفوان، وتكون من عمر الثامنة عشرة إلى الأربعين، وهي الفترة التي يجتر فيها الشباب كل ما اختزلوه من تربية والدية وحفظوه في مستودعاتهم المعرفية والسلوكية لتظهر عليهم بصفة واضحة ملامح النضج المبدئي للتعامل مع الحياة وتحمل جزء من المسؤولية سواء كانت على الشاب أو الشابة، بالاستعداد لدخول الجامعات والدراسة والانخراط في العمل والتهيؤ للزواج، وبدء خوض معترك الحياة للانتقال إلى «مرحلة الرشد» والتي تأتي بعد سن الأربعين إلى الستين، وهي مرحلة النضج الحقيقي والنظرة الواقعية للحياة، وهذه المرحلة أعتبرها مرحلة الركود والعقلانية للتدابير والقرارات ومعظم الخطوات المتخذة وهي الفترة الفاصلة بين ما فات من خبرات سابقة وبين ما هو آت لمرحلة لاحقة من السلام والوفاق والهدوء الروحي والتصالح النفسي، للتجهيز لآخر محطة عمرية وهي «الشيخوخة» التي يحط الإنسان فيها كل رحال الماضي، ويأنس بها كل من وصل إليها وعايشها، وهي ما بعد الستين إلى ما قبل الهرم التام والوفاة، وهي أعمار أمة محمد كما أخبر عنها سيد البشر عليه الصلاة والسلام، فتبدأ الشخصية بالركون قليلا إلى الوحدة والبعد كثيرا عن كل ما يعكر صفوها واستقرارها.

فالشيخوخة من وجهة نظري تمتاز غالبا بمزايا ثلاث رئيسة، هي «لا أسمع لا أرى لا أتكلم» إذا ما فرضنا أن صاحب الشخصية طبيعي وينعم بسلامة القوى العقلية، والتي أعتبرها مرحلة الخلوة الذاتية لمحاورة النفس بأرقى العبارات وأفضل الجمل وأسعد المجاملات، والتي نضطر إليها ونعايشها إذا ما أردنا السلام الروحي والاستقرار العاطفي، فهذه المرحلة استباقية إذا احتجنا إليها ومن أجلها فنستبدل قانون الانتقال والتراتب الطبيعي للمراحل العمرية، ونبادر في تقديمها إلى ما قبل ذلك، فنجد أحيانا من هو في سن الثلاثين أو الأربعين ينتقل إلى عالمه الخاص بمكتبته وصومعته، ويختلي بنفسه ليعيد حساباتها ويعيد ترتيبها، ويطلق العنان أكثر لصمته وتأملاته، ولا يلتفت إلا لكتبه وما يهمه من هواياته، ولا يتكلم مع كل من هب ودب، ولا يشارك في القيل والقال إلا القليل إذا استدعى الموقف ضرورة ذلك كالمناسبات والاجتماعات، ضاربا عرض الحائط بكل ما يكدر صفو خلوته وعزلته، وفي الحديث الشريف قال عليه الصلاة والسلام «إلزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ بما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة» أورده أبو داود. فالشيخوخة في سلوكياتها ليست نهاية مطاف، بل أعتبرها نقطة انعطاف ومرحلة منقذة وطوق نجاة لنعيشها قبل أوانها أحيانا ونجذبها إلينا جذبا إذا ما باءت الطرق بالفشل في تغيير سلوكيات من حولنا من مجتمعنا، لتصبح حالة الشيخوخة حلا جذريا وقرارا مصيريا نتخذه ونحن في مرحلة الشباب.