العرب بين أمل الوحدة وواقع التقسيم (3)

 

 

الأحد - 22 مارس 2015

Sun - 22 Mar 2015



في المقال السابق تحدثت عن ورقة العمل التي قدمها لمؤتمر الفكر العربي الأخير معالي الفريق ضاحي خلفان تميم، نائب رئيس الشرطة والأمن العام بدبي، والتي طرح من خلالها سبعة تساؤلات تصادف أنني قدمت إجابات عليها في خواطر ومؤتمرات سابقة.

ولقد تناولت في المقال السابق سؤاليه الأول والثاني وكانا:

- هل الأمن يمكن تحقيقه بعصا القانون ..أم برغيف العيش أم بكليهما؟

وأجبت ضمناً على تساؤل معاليه الثاني: (هل البطالة المتفشية في كثير من بلدان الوطن العربي تخلق أمناً؟).

أمّا تساؤله الثالث: هل الفساد المالي والإداري في مؤسسات الدولة يخلق أمناً؟

والجواب لا، بكل تأكيد، وإذا ما تأكد لنا عبر رؤية إيمانية شاملة أن المفسدين والفاسدين هم في الأصل مجموعة لا تتقي الله، ولا تُـحكّـم العدل، ولا تتبعُ قواعد الإحسان بكل أشكاله فإن علينا أن نلجأ إلى المنظومة الإيمانية التي قوامها الدين والأخلاق التي بُعِثَ عليه الصلاة والسلام ليتمّمها. ومن هذا المنظور فقد وضعت لكلِ عمل هرماً جاءت التقوى على رأسه، ذلك أن الله تعالى يقول في محكم كتابه: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ) الأعراف 96، وهو القائل عزّ وجل في الآية 16 من سورة الجن: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا).

وحتماً من يتقي الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب.

وفي الطبقة الثانية التي تلي قمة الهرم، الذي تتربع التقوى عليه، وضعتُ العدل والعلم من أجل العمل، والإحسان. والعدل تتفرع منه الحوكمة والشفافية وتكافؤ الفرص. وإذا ما طُبقت الحوكمة بعدل، وتم وضع السياسات التي تحكم الأمور بشفافية وتكافؤ للفرص -وهو أمر غير المساواة- لأنه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، كذلك لا يستوي الذين يعملون والذين لا يعملون.. وهكذا إذا ما أخذ العدل مجراه في مؤسسات الدولة فحتماً لن يجد الفساد له أنصاراً ولا معينين.

ثم يأتي العلم (الذي يُعملُ به) رافداً أساسياً في تنمية المجتمعات بالاعتماد على هذا النوع من العلم، ولقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه علماً نافعاً، واستعاذ به من علم لا يعمل به، (وقد يعترض البعض علىَّ بقولهم، أنه صلى الله عليه وسلم استعاذ من علم لا ينفع. فهل النبي الذي أوتي جوامع الكلم يستعيذ مما سأل ربه منه، حين قال عليه الصلاة والسلام اللهم إني أسألك علماً نافعاً، وأعوذ بك من علم لا ينفع؟! لقد كان المقصود علماً لا يعمل به، ولا يحقق للناس نفعاً. وعلينا أن نراجع الأحاديث ونفهمها وفقاً لما يتفق مع القرآن الكريم، ومع بلاغة النبي العظيم ومكانته عند ربه الكريم).

والعلم المفيد النافع هذا يساعد بلا شك على اكتشاف الذات وتطويرها، مما يُسهل الاستزادة من العلم والتعلم، ويعمل على المحافظة على القيم والارتقاء بها. ومع العلم والثقة والقيم سيتوارى المفسدون، ولن يجدوا لهم أعواناً ولا معاونين.

وعلى درجة موازية في نفس طبقة الهرم الثانية يأتي الإحسان، وهو بمفهومه وحسب تعريف ركنه الواحد في الدين: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».

ولو تعمق هذا الركن وتغلغل في نفوس العاملين والمسؤولين في المؤسسات عامةً وخاصةً، فإنه سيخلق وازعاً ورادعاً يوقظ النائم من الضمائر، ذلك أن محاسبة النفس، والعمل بنزاهة واستقامة سيكونان الدافع الرئيسي لكل العاملين، إذا تأكد لهم يقيناً أنهم إذا لم يروا الله فإنه يراهم. وطوبى لأمرٍ رأس هرمه تقوى الله، وقاعدته القيم والأخلاق.

وتوسط التساؤل الرابع قائمة أسئلة معاليه حين قال: «هل التناحر القبلي والحزبي والطائفي يخلق أمناً؟» وإذا بالحقيقة المؤلمة اليوم تُطل برأسها من كل جهات وطننا العربي الأربع لتجيب صارخةً: لا.. لا.. لا.. لا.

وكلها فتنٌ شبّت وترعرعت في أحضان الفساد بكل أشكاله في كل المؤسسات الحكومية في معظم الدول العربية، وعلى البقية منها أن تعي جيداً هذه الحقيقة. فالانحياز إلى قبيلة أو حزب أو طائفة وإهمال البقية، لا يولّد الرضا عند من ننحازُ إليهم، لكنه يولّد مزيداً من الرغبة في الجشع والانفراد بالمال والقرار، وهو ما يثير حفيظة الذين لم ننحز إليهم، ولم ننجز لهم ما يحقق العدالة والمساواة، فيتحول الكُل المهمَل هذا أو معظمه إلى عدوٍ ظاهرٍ أو خفي للجزء الحائز على المحاباة والتفضيل وتميز العصر، ونلقي بأيدينا مزيداً من الحطب في موقد الفتنة فيزداد اشتعالها ويتأجج جمرها حتى يصبح كالقصر.

ولقد نبّهت في مواقع عديدة أن فكرة الفرقة الناجية هي محض اختراع وافتراء، أُريد بها الاستقواء، ونبي الأمة ورسولُ الرحمة عليه الصلاة والسلام، لا يقبل أن تكون في أمته فرقةٌ واحدة ناجية والبقية في النار، وهو الذي أُرسل رحمةً للعالمين، والله الذي أرسله بالحق يقول في كتابه الحكيم: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)، وقال عزّ من قائل: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)، ولم يقل العزيز الحكيم خير فرقةٍ ولا قبيلةٍ ولا خير حزبٍ، ولا خير طائفة.

ولكم فقط أن تتخيلوا أو تتذكروا الرجال الذين كانوا حول المصطفى عليه الصلاة والسلام، لتعرفوا أن لا فرق بين عربي ولا عجمي، ولا أبيض ولا أسود، لقد كان بلال وسلمان وصهيب إلى جانب أبي بكر وعلي وكل المؤمنين.

هكذا أراد الله أن يؤكد لنا حتى في مهد الرسالة أن الناس أمام الله سواسية، وأن الفرق تصنّفه التقوى، وليس القربى ولا القبيلة، ولا الطائفة أو الجماعة.

لهذا كان الإسلام ختام الأديان وكان الرسول خاتم الرسل، والله لا يرتضي ديناً لا يصلح إلا لفئةٍ من خلقه، ولا يناسب بقيةَ من خلق، وإلا كيف يمكن للإسلام أن يسود وينتشر على هذه الصورة في كل أصقاع الدنيا وأنحاء المعمورة.

ولإيماني المطلق بأن التناحر بكل أشكاله هو معول يهدم أعتى جدران الأمن ويتسلق أعلى صروحه، حذّرتُ مراراً في ندوات اقرأ الفقهية، أو في مقالات صحفية، من كلِ مروّجٍ لأفكار التفرقة والتجزئة، فالعرب والمسلمون أمة لا يخلخلها أو يزلزلها إلا الخوارج منها والمارقون عنها ومن تبعهم من مضللين ومخدوعين من أبنائها، والذين هم في الحقيقة ضحايا انشغالنا وإهمالنا واتكالنا على إرثٍ قديم واعتمادنا على الآخرين.

وهذا ما جعل الفريق ضاحي خلفان يطرح تساؤله الخامس:

- هل الاتكالية واللامسؤولية والاعتماد على الآخرين يخلق أمناً؟

وهو ما سأواصل الحديث عنه بحول الله في لقاءٍ قادم، إذا كتب الله لنا بفضله لقاء.



[email protected]



العرب بين أمل الوحدة وواقع التقسيم (1)

العرب بين أمل الوحدة وواقع التقسيم (2)

العرب بين أمل الوحدة وواقع التقسيم (3)



العرب بين أمل الوحدة وواقع التقسيم (4)