من لم يشكر الناس.. لم يشكر الله
الأحد - 01 مارس 2015
Sun - 01 Mar 2015
في المقالة الماضية من مقالات «من لم يشكر الناس.. لم يشكر الله» أخرجتني أمنياتي وأحلامي بغدٍ أفضل لتعليمٍ يُسهم في إثراء حياة الوطن وإيجاد العمل لكل متخرجيه، أخرجني عما أردت ذكره من شكر وعرفان لكوكبة من المعلمين الأفاضل، الذين أسهموا بإخلاص وصدق في غرس العلم والمعرفة في ذاتي وفي أبناء جيلي.
وخوفاً من الانزلاق نحو منعرج أو متاهةٍ جديدة، أبدأ اليوم في ذكر أسماء بعضهم، رحمهم الله أجمعين، بعدما رحمنا بما قدموه لنا بفضله وتوفيقه من إضاءات ظلَّ وميضها باقياً في عيوننا، وظلَّ نورها رفيقاً في كل الدروب، وبقي نموذجاً قابلاً للاحتذاء حتى بعد مرور ما يقارب العقود السبعة.
في كُتّاب «الماحي»، رغم أن هذا المسمى لا ينطبق على مكان يتلقى فيه الأطفال علماً سيظل بعون الله راسخاً لا يُمحى أو ينمحي، فالماحي هو الشيخ الذي يطمس الأشياء ويمحوها ولا يجعل لها أثراً، وربما من هنا اشتّق اسم «المحَّاية» أو «المسّاحة»، التي تزيل ما تمت كتابته على اللوح «بالطباشير» أو على الورقة بالقلم الرصاص، والذي ليس له أيضاً من اسمه نصيب لخلوه من الرصاص.
في هذا الكُتّاب درسنا أنا وأخي الأكبر حسن، يرحمه الله، ويرحمني إذا صِرت إلى ما صار إليه، وتعلمنا فكّ الحرف..
وهكذا فإن بعض الأسماء لا تدل في الواقع على مسمياتها، ومن الأبيات القليلة التي نظمها الراحل الشيخ متولي الشعراوي، أسكنه الله فسيح جناته، بيت يقول فيه:
وشارعٍ كعِمادِ الدّين تسميةً وإنما
لِفسادِ الدين قد جُعِلا
ومعروف أن شارع عماد الدين القاهري، هو أحد مراكز الفرق الشعبية الراقصة، وما شابه ذلك.
وبعد كُتّابْ الماحي.. وفي نفس الحي المكي »الشُبيكة« انتقلت إلى مدرسة الفيصلية الابتدائية، وفيها بدأت رحلتي المبكرة مع العلم الراسخ والمعلم الأصيل.
المادة: القرآن والتجويد. المعلم: السيد زيني حسن دحلان. إن أهم ما يتعلمه التلميذ في هذه السن المبكرة من خلال القرآن الكريم - بعيداً عما يعنيه القرآن نفسه من معجزة فكرية ووجدانية دائمة وباقية بحفظ الله تعالى - والتي تتطلب سناً أكبر يأتي بفضل الله في مراحل تالية، فإن سلامة النطق ومعرفة مخارج الحروف بشكلها الصحيح هي ما تساعد تلميذاً في المرحلة الابتدائية على الانطلاق والتميّز، علاوةً على منظومة الأخلاق والآداب التي يشملها القرآن الكريم، والذي هو في الواقع خلاصة الأخلاق التي يريدها الله لعباده الصالحين..
ويكفي أنه قيل عن النبي الآمين محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام: «لقد كان خُلُقُه القرآن»، والله تعالى يقول عن نبيه الذي يصلي عليه وملائكته «وإنك لعلى خُلقٍ عظيم»، ولم يكن هناك أروع من القرآن الكريم منهجاً، وأحمد اللهَ أن أكرمنا في تلك السن المبكرة برجلٍ يعرف قيمة المادة التي يُدرّسها، والعلم الذي يقدمه لتلاميذه، لقد كان الأستاذ زيني دحلان، يرحمه الله، بسمرته التي تُلّون بها شمس مكة المكرمة معظم أهلها، وبكوفيته المرتفعة البيضاء، والتي يقول عنها المكيّون مازحين: «صندقة مرخّمة» أي مطلية بالرخام الأبيض، والصندقة هي الكوخ المصنوع من الخشب والزنك..
كان رجلاً هادئاً، لم تمتد يده يوماً بالضرب على أحد من تلاميذه، ولم يخاصم حتى أحداً منّا، فكان نموذجاً لرجل يُعلم طلابه كتاب الله، الكتاب الذي جاء يخاطب العقول ويحاور الفكر دون إرهاب أو إكراه، رحمه الله.
وتأكيداً على علاقة التناغم والتكامل بين المادة ومدرّسها، وأهمية ذلك في إحداث التأثير المطلوب على الطالب، أذكر:-
المادة: اللغة العربية. المعلم: عبدالغفور قاسم. ولهذا الرجل، يرحمه الله، الفضل بعد الله في إطلاق ملكة الخطابة والارتجال لدى الكثير من تلاميذه، والذين أحسب نفسي واحداً منهم إن شاء الله، فقد عودنا على الجرأة، وحببنا في القراءة وكان يقدم لنا كتب المنفلوطي ويعطينا الجوائز، كان يؤمن بقدرات طلابه، وكان يعمد إلى كل الوسائل التي تُطلِق هذه القدرات من عقالها، خاصة مع مراحل التعليم الأولى..
لم يكن هذا الرجل وأمثاله الكرام، يدرسون طلبةً في الصفوف الابتدائية، بل كانوا رجالاً يعدُّون للوطن الرجال.
وقد يقع المدرس أو المعلم أحياناً في أخطاء غير مقصودة، وقد يكون الطالب أحياناً أحد أهم هذه الأسباب..
كان مدرس الخط في الفيصلية الابتدائية سبباً من أسباب سوء خطي، وقليلون هم الذين يعرفون أو يمكنهم قراءة خطي، والسبب هو أن مدرس الخط، يرحمه الله، أراد أن يبتكر وسيلةً محفّزة لتعويدنا على الكتابة، فقرر أن كل من ينهي كتابة أربع صفحات «يطلع فسحة»، والفسحة كانت تعني لي الشيء الكثير وكذلك لغيري من الزملاء، فتعودت أن أكتب بسرعة كبيرة جداً، وهي التي أكتب بها اليوم، وهي السبب في سوء خطي، وبالطبع لن أذكر اسمه فزملائي في الدفعة يعرفونه، ولكني أذكره بالخير يرحمه الله، ولكنه اهتم بالكم ولم يهتم بالكيف، ولو طلب منا أن نكتب أربعة أسطر فقط بخط جيد أو ممتاز، لما احتجت اليوم إلى من يترجم خطي، وأحياناً يترجمونه ليّ، وأقول لمن ابتلاه الله بخطي، لو سمحت اقرأ لي ماذا كتبت أنا هنا، وفي الحقيقة السرعة دائماً لا تأتي بالجودة المطلوبة، ولكن في التأني السلامة..
وقد أعود معكم لأذكر فأشكر..