(آهٍ منك يا زمن النزوح)

بالنظر إلى تدافع الأحداث وتراكمها فإنّه يصعب تدوين ما جال في خاطر العقود الفائتة، ناهيك عن مذكرات سنة أو شهر واحد على دفتر مذكرات. ولو أنّ الذكرى قريبة جداً والأحداث وكأنها بنت الساعة واللحظة، والكل مندهش على عدم تقادم الحدث وأنّه في زمن قريب مضى كان يُشار إليه مجرد إشارة، أما اليوم فيُذكر الحدث بتوقيته الدقيق ومتلازماته من محفزات التذكير من أحداث ثانوية وتفاصيل مرتبطة به.

بالنظر إلى تدافع الأحداث وتراكمها فإنّه يصعب تدوين ما جال في خاطر العقود الفائتة، ناهيك عن مذكرات سنة أو شهر واحد على دفتر مذكرات. ولو أنّ الذكرى قريبة جداً والأحداث وكأنها بنت الساعة واللحظة، والكل مندهش على عدم تقادم الحدث وأنّه في زمن قريب مضى كان يُشار إليه مجرد إشارة، أما اليوم فيُذكر الحدث بتوقيته الدقيق ومتلازماته من محفزات التذكير من أحداث ثانوية وتفاصيل مرتبطة به.

الأحد - 09 نوفمبر 2014

Sun - 09 Nov 2014



بالنظر إلى تدافع الأحداث وتراكمها فإنّه يصعب تدوين ما جال في خاطر العقود الفائتة، ناهيك عن مذكرات سنة أو شهر واحد على دفتر مذكرات. ولو أنّ الذكرى قريبة جداً والأحداث وكأنها بنت الساعة واللحظة، والكل مندهش على عدم تقادم الحدث وأنّه في زمن قريب مضى كان يُشار إليه مجرد إشارة، أما اليوم فيُذكر الحدث بتوقيته الدقيق ومتلازماته من محفزات التذكير من أحداث ثانوية وتفاصيل مرتبطة به.



تنشط ذاكرة الفرد عندما تتراءى بقعة الذاكرة وتومض منبئة عن زمان أو مكان ما. ونجد أنّه غالباً ما يتكثف استرجاع الذكريات مع إعادة آلام التجربة أو المرور بجزء منها، فيتحول المكان والإحساس به عند نقطة تتزاحم فيها تفاصيل جديدة عند باب الخروج وتتلاشى أخرى قديمة بفعل الزمن وفعل الإنسان. فمن الممكن احتمال ذلك في سياق زمني خاص ولكن الزمن المجني عليه دوماً يأتي بشكل هلامي، ضعيف وخائر، والزمن الجاني يستأسد ولا يرحم.

تلك المساحة الضئيلة خُلقت فيها أحداث وولد فيها خيال واكتشفت فيها محطات ومراحل افترضتها ذهنيات متباينة، بعض وثق للمكان بعاطفته، وبعض بعقله، والبعض الآخر بما يتمناه.

ولهذا الارتباط الوثيق في كتابة المذكرات تحضر رسائل الأدباء مثل “رسالة إلى إيلين”. في هذه الرسالة “القصة”، يرينا الطيب صالح بعدسة الحياة اليومية المكبرة تفاصيل إعداد زوجته حاجيات سفره ووصاياها العشر، وكيف أن بنية النص تتداخل من غير أن يفرض علينا الكاتب رؤيته الخاصة ولكنه عوضاً عن ذلك يحملنا في انسيابية تتوالى فيها أحاسيس واقعية السرد مشحونة بعاطفة حنين من “إيلين” وإليها ممزوجة بحنين الأهل.

وبالرغم من تداخل علاقة نص الرسالة بتفاصيل الأشياء وعدم انفصامها عنها، وعلاقة رمز الترحال بالحياة الواسعة بمعناها الفلسفي (آه منك يا زمن النزوح) التي اختتم بها، إلا أنّ توالي الأحاسيس بدا واضحاً وطاغياً لأنّ كلاً من الأحداث: ذكريات زواجه ورحيله ولقاء أهله، هي في مجملها مشاعر سحبنا إليها سحباً وكأننا نشاركه ذات التفاصيل ونقتسم معه ذكرياتها. مثل هذه القطع الفريدة من الذكريات، ما كان لها أن تبقى صامدة لولا أنّ الكاتب وبفضل ارتباطه بأدوات النشر الحديثة خاصة في آخر أيامه، استطاع أن يزاوج بين التقليدي والالكتروني للاستفادة من سمات كل طريقة في حفظ روائعه من الاندثار.

ورغم أعراض الزهايمر على البشر إلّا أنّ ذاكرة الزمان أصبحت قوية بما يكفي، خاصة المفكرات الالكترونية على جهاز الكمبيوتر أو الهاتف الجوال، قلّت الاستعانة بدفاتر المذكرات المحسوسة، مع هذه التقنية الحديثة لسهولة استخدامها وسلاستها.

وفضلاً عن المذكرات، تشكّل طريقة تدوين الملاحظات والواجبات المراد إنجازها، أهمية كبرى لصاحبها أيّاً كانت وسيلتها، حتى لو كتبها على الأرض ومكث يحميها من ذرات التراب. وهذه الأهمية تمتد لتشمل كل أشكال التدوين سواء كانت في شكل ملاحظات أو مذكرات أو حتى أمنيات. وما ينطق به السؤال هنا هو جدوى التدوين الالكتروني في حماية التاريخ والأدب والثقافة، فالتوثيق الالكتروني رغم سلاسته ويسره فإنّه أشبه بالكتابة على الرمل، قد تعمل بضع نسمات على طمس معالمه بالكامل.

أمّا الأمنيات المرتبطة بزمن مقبل ننتظر حدوثها في تفاصيل الحياة واللقاء والفراق ليست كقرارات النفس الحاسمة التي لا تتولد تلقائياً، ولا تأتي من العدم، بل جذورها الحية هي التي تأخذك إلى أعلى لتعبّر عنها في الهواء الطلق. فمهما كان من أمر فالنتائج حتماً ستؤول إلى شيء ما قد يفرح وقد يريح وقد يُحزن وقد يثير كثيراً من الندم.

تمرّ السنين وتتدفق الأماني مدراراً بين الناس، “وأنا أريد وأنت تريد والله يفعل ما يريد”، وتتلوى ضخات دم القلب حتى لتكاد تُسمع منبئة عن استمرار الحياة واستمرار الإرادة. ولشد ما تتحكم بأفعال الإنسان ونواياه عند بداية مرحلة جديدة أو محطة دهشة قاسية، سواء كانت ذكريات مجيدة أو أمنيات عنيدة.