شاهر النهاري

بين الداكوتا والايرباص

السبت - 08 أبريل 2017

Sat - 08 Apr 2017

من تعدى منكم الخمسة عقود من عمره لا بد أنه يعرف عما أتكلم عنه، حين أعود به معي على متن آلة الزمن الخرافية، للبدايات المرتعبة المندهشة البريئة التي عرفناها مع أول اعتلاء لجرم الطائرة، وكيف كانت الرحلة فيضا من أحلام الطلاسم، لا تلبث أن تصبح كابوسا مزعجا بحلول ساعة سفر، نتوه في مخاوف حيرته ولا نكاد نخرج من حدوده، مهما أخرجنا ما في جوفنا، وشعرنا بأعيننا تكاد أن تغادر مآقيها، وبتقلب أحشائنا، تصعد للحلقوم، وتنزل ملتوية، فلا نعود نعرف كنه ما يحدث لنا.



طائرة الداكوتا كانت لي رحلة فيها، تكتب في تاريخ المجهول، وكانت طفولتي في سنواتها الأولى، والرحلة من مدينة أبها إلى الطائف. صالة المطار لم تكن إلا غارا مسكونا بـ(الوحران)، على أطراف مهبط معبد للطائرة في خميس مشيط، والمسافرون ومن يأتون لتوديعهم يتعاملون مع الوضع وكأنهم في نزهة برية، فالدافور مشتعل، والشاهي على الجمر، وقدر المقلقل يجمع حوله الأنوف، والأعين تنتظر حدث نزول الطائرة، والذي لا يعرف أحد أوانه، فنتأمل حضورها قبل سطوة الظلام، واستحالة الهبوط بلا أضواء.

وتحط الطائرة أمامنا، بجرم ضخم كالعنقاء، المعربدة الأزيز، وتدور مروحتاها على جانبيها، بينما يقبع الطيار خلف نافذة قمرته التي ترتفع كثيرا عن مستوى جسم الطائرة المنزلق للخلف بقوة.



ينزل من حضروا فيها، وهم يترنحون في حالة من الوهن والتشتت، فنعلم أن القادم علينا عسير. يسمح لنا بركوب الطائرة، ونحن نحمل عفشنا، ثم نجلس على أحد كراسيها المتلاصقة، والمضيفة الأجنبية تحاول إعادة ترتيبنا حسب الأوزان!



وأنظر بشغف طفولي من النافذة، قبل أن تأمرني المضيفة بالجلوس، وربط الحزام، وهذا في حد ذاته يعتبر نذير خطر، ويؤكد ما كنا نسمعه عن تعذيب يتعرض له من يقومون برحلات الطائرات.



وتضج المحركات، وتصفر المراوح، وتطرق طبول لا نراها، وتنطلق العجلات منزلقة على ممر ترابي، ثم لا تلبث أن ترتفع عنه، مع تفاقم وشدة أفلام التراجيديا العجيبة، فهذا يعتصر بطنه، وهذا يصرخ من آلام أذنيه، وهذا يبحث عن الكيس الورقي الذي سلم له قبل الرحلة، لتفريغ الحمولة.



موت يتحقق للعين، وسحاب نعتليه، ومطبات هوائية ترفعنا ثم تهوي بنا للقاع، وتجعلنا نتشبث بحبال مرجوحة سماوية، لا ترحم، وشعور بالخوف من المجهول، ما له مثيل. وتكاد الطائرة أن تستقر، ولا تفعل، ولكن المضيفة تمر بيننا، وتضع في أحضاننا كراتين، بها أكياس طعام معلب غريب؛ وطعم المقلقل لا يزال يصارع من أجل البقاء. قليل منا من أكل، والبعض دس بعض ما بين يديه لوقت الخلاص.



وحدث ولا حرج بما حدث، وما استمر حتى شعرنا بقوائم الطائرة وكأنها ترتطم بالأرض. لقد كان لنا هاجس أخبرونا عنه، بأن عجلات الطائرة ربما تصلبت، فلا تنزل، مما يعني كارثة أكبر مما نحن فيه.



ونهبط في مطار الطائف، بحال لا يسر، فبمجرد نظرة بسيطة للوجوه، تعرف أنها كانت في مطحنة لا تفرق بين الشعير والبر. الفرق شاسع بين تلك الرحلة، وبين رحلتي الأخيرة على طائرة ايرباص 380، حيث كنت أتجول في دورين هائلين، وأنظر لمحرك عجيب أضخم من حجم الداكوتا.



[email protected]