هل كان الفقيه مثقفا؟

السبت - 26 نوفمبر 2016

Sat - 26 Nov 2016

لا يزال المثقف رغم كل ما قيل وكتب إلى يومنا هذا مفهوما مبهما، إن لم نقل غامضا، ولعل هذا الإبهام آت من المثقف نفسه، وعلاقته بالواقع، إذ لا مثقف بدون مجتمع على صعيد، ولا مثقف بدون دولة على صعيد آخر.



يبقى السؤال قائما لأن المثقف ـ ودوره كذلك ـ يتلون بلون المجتمع الذي يجد نفسه فيه، وعلى الرغم من هذا، بإمكاننا القول إن هناك قيما ومبادئ لا يتخلى عنها المثقف أبدا، أينما كان ومهما حصل، وعندما يفعل، أي عندما يتخلى عنها، لا يعود مثقفا.



أسجل أن المثقف، أو من يراد تعريفه باستخدام هذه الكلمة، ليس فردا بعينه، بل المثقف، إذا شئنا الدقة في التعريف، هو دور يلعبه فرد من الأفراد في لحظة معينة من التاريخ داخل المجتمع وإزاء السلطة.



ومن حق التاريخ أن يسحب هذه الصفة عمن يتخلى عن متطلبات هذا الدور.

نعرف جميعا أن مفهوم المثقف، أي ذاك الفرد الواعي الذي يمثل ضمير المجتمع (رغم عناد هذا المجتمع) وضمير السلطة (رغم تعنتها) – من هنا مأساة المثقف –، هو مفهوم حديث نسبيا لم يتبلور إلا في أوروبا. تعددت الدراسات والبحوث التي تحاول رسم هذا المفهوم من خلال تجربة أوروبا التاريخية، وكثر الجدل، السطحي أحيانا، والعميق والمفيد جدا أحيانا أخرى، وصرنا نجد اليوم من يشير إلى أن هذا المفهوم (أي الدور) موجود في تراثنا العربي الإسلامي.

يبقى المثقف مثقفا فقط بسبب صلته وعلاقته بالواقع، ومطالبته المستمرة للمجتمع والسلطة (الدولة)، بالنظر إلى هذا الواقع والتعامل معه بطريقة فاحصة تكشف عن الخلل الكامن فيه، ومحاولته الدائمة إلى دفع المجتمع والسلطة إلى الممارسة الفاعلة في هذا الواقع وولوج باب التاريخ.

للمثقف دور مزدوج، دور الضمير الذي ينادي بالانتباه إلى الظلم والقمع والانحراف عن القيم الإنسانية العظمى، ودور المفكر الذي يسهم في دفع المجتمع والدولة نحو فاعلية تاريخية إيجابية.



يقال، حتى يستطيع المثقف أن يلعب مثل هذا الدور المزدوج، ينبغي عليه القيام بمناورات مدهشة لا يقدر عليها إلا رجال استثنائيون فكرا وعملا. فالمثقف رغم نقده للمجتمع يبقى عضوا حيويا داخله، وفردا يؤمن في صميم كيانه أنه جزء لا يتجزأ من المجتمع، حتى لو وجد من هذا الأخير – أي المجتمع – الجحود والنكران. من جهة أخرى يجب أن يبقى المثقف معترفا به من قبل الدولة رغم نقده الحاد واللاذع لها أحيانا.

من هنا نجد أن المثقف لكي يوجد لا بد من وجود دولة قادرة، إلى حد ما، على تقبل نقده وإن كان هذا التقبل لا يعني الموافقة أو الجاهزية للاستماع، لأن نقد السلطة وإن كان موجها إلى السلطة فإنه في باطنه خطاب موجه إلى المجتمع.



وإذا ما غابت هذه الدولة ماذا يكون؟ يختفي دور المثقف، إذ لا إمكانية لوجوده، وتظهر إلى السطح أدوار أخرى فيكون الفرد حينها معارضا أو مناضلا أو ثوريا، وهي أدوار لا تقل أهمية إذا ما دعت إلى هذا الضرورة التاريخية، واستفحل القمع والقهر والاستغلال.

أنتقل الآن إلى مستوى آخر لأبحث في ملامح المثقف على الصعيد الفكري. هناك من يرون أن الفقيه كان يلعب دور المثقف في الحضارة العربية الإسلامية، وهم يرون هذا لما كان يلعبه الفقيه من دور إزاء السلطة، إذ كان الضمير الكابح لأهوائها الطائشة باستمرار، وهم إذ يقرون هذا لا يقرون إلا وجها واحدا من أوجه دور المثقف، وهو الدور الفاعل تجاه السلطة والقمع والاستبداد.



أطرح هنا سؤالا، أليس الفقيه هو الذي يرفض، ضمنا دون تصريح، أن يسمى بالمثقف، وحافظ رغم هذا على التسمية القديمة: الفقيه/العالم/الشيخ؟ إن هذا الرفض الصامت يدل على أمر جوهري لم ينتبه إليه أصحاب الرأي القائل إن الفقيه مثقف.

لا يكون المثقف مثقفا إلا إذا كان ينادي بالتنوير ولا يرى في هذا الحق أي قابلية للنقاش. وأقصد بالتنوير هنا حق الفرد في رفض أي وصاية فكرية، وحق الفرد في التفكير بنفسه في كل ما يخص شؤون حياته، خصوصا في أمور الدين (المقصود هنا الفقه، إذ لا خلاف في مجتمعنا على العقيدة)، وإنها لفضيحة، للطرفين معا، أن يسمى الفقيه مثقفا.



صحيح، لقد أدرك الفقيه المعاصر أن المثقف لا يكون مثقفا إلا إذا كان تنويريا فرفض التسمية، وثبت المسمى القديم. وهو بهذا يثبت وعيا فكريا يتجاوز فيه من نادى بتسمية الفقيه مثقفا (مفارقة مضحكة).

هنا النقطة التي أردت أن أصل إليها، وما كان لي أن أفعل دون الدخول في مجال المقارنة بين المثقف والفقيه.

إن هذا التحديد الأوضح للمثقف يساعدنا على الابتعاد عن الشعارات الكاذبة، والمثل الكاذبة، والمثقفين المزيفين الذي يدعون لأنفسهم هذا الدور في حين أنهم ما زالوا يرسخون التبعية في الفكر والعمل.