أستاذ دكتور.. بفلوسي!

الخميس - 10 نوفمبر 2016

Thu - 10 Nov 2016

في المجتمعات التي يغلب فيها التقدير للألقاب، تجد الفرد حريصا على الحصول على أي لقب ليسبق اسمه، وليكسبه بعضا من التقدير والاحترام ممن حوله. أرى ذلك جليا ومنتشرا في مجتمعاتنا العربية.. فما زلت أذكر إجابة صديقي لسؤالي عن التخصص الذي يود الالتحاق به لدراسته الجامعية عندما قال: أي تخصص، لكن الأهم أن يكون له لقب مهني كطبيب أو مهندس أو محام! ولا أوضح مثالا في وقتنا الحاضر من الشهادات الوهمية للدكتوراه ورواجها في مجتمعاتنا.



تتوازى مع قضية الشهادات الوهمية قضية أخرى على نطاق أضيق في الوسط الأكاديمي، ألا وهي سرقات البحوث العلمية وشراؤها! فبالرغم من شناعة الأولى وخطورة انتشارها، إلا أن الأخيرة قد تكون أكثر جرما وخطورة، لما فيها من انتهاك للأمانة العلمية وأخلاقيات البحث العلمي، بواسطة أعضاء هيئة التدريس الذين هم من أهم ركائز نهضة المجتمع بتحقيقهم أحد أهم وظائفهم، وهي إنتاج البحوث العلمية.



في حديث مع أحد الأكاديميين حول أخلاقيات البحث العلمي وانتهاكها في الوسط الأكاديمي، بدا لنا أن أبرز الصور تتمثل في البحوث المقدمة للترقية العلمية، حيث يهدف توفير الكم اللازم من الإنتاج العلمي المطلوب للترقية، قد يسعى بعض من أعضاء هيئة التدريس إلى سلك أسرع الطرق وأمهدها للحصول على بحوث محكمة منشورة أو كتب بتغليف فاخر طبعت عليها أسماؤهم، ليتم تقديمها للترقية فور بلوغ المدة المحددة لذلك. كل ذلك ليتحول لقبه العلمي من أستاذ مساعد إلى أستاذ مشارك أو من أستاذ مشارك إلى أستاذ دكتور (بروفيسور)! حتى وإن لم يكتب حرفا واحدا، أو يضف شيئا للعلم والمعرفة! فيكفيه أن ينعت بـ(البروفيسور) فلان بين أهله ورفاقه كي لا يكون أقل مكانة من أحدهم. أما في محيط عمله «فالشمس لا تحجب بغربال»، لكن «ليس كل ما يعرف يقال»..!



في ذات السياق، ذكر لي أحدهم أن هناك شارعا في أحد الدول العربية تكثر به إعلانات كتابة رسائل الدكتوراه والبحوث العلمية، مع إمكانية اعتماد النشر في مجلات علمية محكمة، فلكل طلبه و«على الشرط» كما أن «لكل حجرة أجرة»..! وزاد تعجبي عندما أخبرني بأن التعامل معهم من جميع الدول العربية، وأن السعر يشمل (الدليفري)..! عندها كشف لي الغطاء عن أمور كنت عاجزا عن فهمها، فقد كنت أتعجب من (بروفيسور) لا يتقن الإنجليزية ولديه كتب تباع باللغة الإنجليزية في (أمازون)، كذلك كنت أعجز عن فهم أن يكون أحدهم حديث الترقية لدرجة أستاذ ولا يستطيع تذكر عناوين بحوث ترقيته..! كل ذلك بدا أكثر وضوحا عندما علمت بأنه يمكن أن تصبح أستاذا دكتورا (بفلوسك)!.



أعلم أن جميع الجامعات تسعى جاهدة لإخضاع عمليات الترقية للعديد من الإجراءات التي من شأنها الفحص والتمحيص للتأكد من أحقية عضو هيئة التدريس للترقية. كما لا أشكك في نزاهة الأكفاء ممن حصلوا على ترقياتهم بكل جدارة واستحقاق، وهم كثر في وطننا العربي عموما، وجامعاتنا على وجه الخصوص. إلا أنني وددت تسليط الضوء على قضية من شأنها التأثير على جودة البحث العلمي من جهة، وبها خرق لأحد أهم مبادئ وأخلاقيات البحث العلمي من جهة أخرى، ناهيك عن أنها قد تقلل من قيمة هذه الدرجة العلمية، فيتساوى المستحق لها مع غيره، وينتج لدينا (دكاترة) بمستوى علمي ضعيف لا يتناسب واللقب!



مع صعوبة كشف مثل هذا النوع من الإنتاج العلمي - خصوصا تلك التي لا تحتوي على سرقة علمية - فإنه يصعب إيجاد حلول لها. غير أنني أرى أنه من الحلول أن يتم التركيز والاهتمام بأخلاقيات البحث العلمي، وتعزيزها لدى أعضاء هيئة التدريس والباحثين وطلاب الدراسات العليا عن طريق إيجاد وحدات فاعلة بالجامعات من مهامها إقامة ورش عمل ومحاضرات بهذا الخصوص، كما أنه لا بد من إيجاد أنظمة وعقوبات مغلظة للمنتهكين. كذلك لا بد من إعادة النظر في إجراءات الترقية من اختيار محكمين وتحديد مستويات المجلات العلمية التي يسمح بالنشر بها مع مراعاة التنوع في المجلات.