ذكريات الطفولة في دَحْلة حرب القديمة

إن المقالة التي نشرتها في صحيفة الرياض سنة 1979 بعنوان (الدحلة) ثم ضمنتها كتابي (في البحث عن الواقع) الذي أصدرته مؤسسة دار العلوم سنة 1984، هي أهم ما كتبته عن ذكريات الطفولة في مسقط رأسي مكة الحبيبة، وكانت المقالة تعقيباً على ما كتبه الأستاذ عاتق بن غيث البلادي (رحمه الله) في كتابه (الأدب الشعبي في الحجاز) الذي صدر عام 1977، فقد أثار في نفسي وفي نفوس الكثيرين ممن قضوا طفولتهم في الحجاز - حواضره وبواديه - الكثير من الحنين والذكريات

إن المقالة التي نشرتها في صحيفة الرياض سنة 1979 بعنوان (الدحلة) ثم ضمنتها كتابي (في البحث عن الواقع) الذي أصدرته مؤسسة دار العلوم سنة 1984، هي أهم ما كتبته عن ذكريات الطفولة في مسقط رأسي مكة الحبيبة، وكانت المقالة تعقيباً على ما كتبه الأستاذ عاتق بن غيث البلادي (رحمه الله) في كتابه (الأدب الشعبي في الحجاز) الذي صدر عام 1977، فقد أثار في نفسي وفي نفوس الكثيرين ممن قضوا طفولتهم في الحجاز - حواضره وبواديه - الكثير من الحنين والذكريات

الأربعاء - 13 أغسطس 2014

Wed - 13 Aug 2014



إن المقالة التي نشرتها في صحيفة الرياض سنة 1979 بعنوان (الدحلة) ثم ضمنتها كتابي (في البحث عن الواقع) الذي أصدرته مؤسسة دار العلوم سنة 1984، هي أهم ما كتبته عن ذكريات الطفولة في مسقط رأسي مكة الحبيبة، وكانت المقالة تعقيباً على ما كتبه الأستاذ عاتق بن غيث البلادي (رحمه الله) في كتابه (الأدب الشعبي في الحجاز) الذي صدر عام 1977، فقد أثار في نفسي وفي نفوس الكثيرين ممن قضوا طفولتهم في الحجاز - حواضره وبواديه - الكثير من الحنين والذكريات. ولقد ذكرت أننا كنا أطفالاً لا نعي ما حولنا في «دحلة حرب» عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية، وهي حارة مغمورة مجهولة في حي جرول -الطرف الغربي من مكة المكرمة، أما نسبتها إلى قبيلة حرب فلا يحتاج إلى اجتهاد لأن الكثير من حارات مكة وشعابها في ذلك الزمان تنسب إلى الشعوب أو الأجناس التي استقرت فيها، فهناك حارة «العتيبية» وهناك «حارة التكارنة» وهناك «زقاق البخارية» وهناك «حارة الشامية» إلخ. قال تعالى «وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا». وأشرت في مقالتي تلك إلى بعض الشخصيات التي كانت تقطن تلك الحارة البائسة الفقيرة من أمثال سائق البريد المعروف عبادي باراسين، وشيخ السقاية محمد بن حسن ومغسل الموتى إسماعيل فران، ولكنني ركزت على شخصية جدتي «أم علي» التي آوتنا في بيتها المتواضع أنا ووالدتي وإخوتي الصغار بعد وفاة والدي في قريته «ألاب» التي لا تبعد كثيراً عن المدينة المنورة. كانت جدتي «أم علي» من أعلام الدحلة في ذلك الزمان، بدوية صميمة من قرية حجز، لم تفقدها الإقامة في مكة طباعها وشخصيتها والحنين إلى ديارها، ترتدي «مشلحاً» رجالياً من الصوف الأسود، و»مركوباً» - حذاء - رجالياً، وتبرز إلى الرجال ملثمة تحدثهم ويتحدثون إليها، ولم يكونوا يبرمون أمراً مهماً في الدحلة دون مشورتها. وللدحلة موقع «استراتيجي» اقتصادي مهم، فهي تشرف على الطريق الخلفي الضيق الذي يصل ما بين «ربع لسان» و»العتيبية»، و»الحجون» وعلى هذه الطريق تتقاطر قوافل الجمال في موسم الحج، تحمل الحجاج في صناديق مغطاة بالخيش يسمونها «الشقادف» ولقد أفاد الأطفال من موقع دحلتهم واستغلوه خير استغلال، إذ كانوا يسيرون تحت «الشقادف» فرحين مهللين منشدين:

هَنُودَهْ باللهْ هَنُودَهْ هَنُودَه عنبر وعُودَهْ

وكان الحجاج يجودون عليهم أحياناً بقطع صغيرة من النقود يضعونها في «كشاكيلهم»، وهي علب صغيرة من الصفيح مثبتة في أطراف أعواد طويلة من جريد النخل، كان الحجاج الهنود أكثر سخاءً من الحجاج الآخرين، وكل جواد من الحجاج فهو هندي وإن لم يمت إلى الهند بأدنى صلة. ولقد ختمت ما كتبته عن «الدحلة» بمصير جدتي، رحمها الله ، قلت «وفي صباح يوم من أيام 1377هـ/ 1957م، افتقد أهل الدحلة جارتهم (أم علي). رأوها قبل بضعة أيام تغلق باب منزلها في صمت، وتدب في وهن مولية ظهرها «دحلتهم» لا بد أنها ذاهبة إلى ذويها في «ريع الرسان»، سرعان ما تعود، ولكنها لم تعد إليهم أبداً، لقد كانت حتى آخر لحظة من حياتها أعرابية صميمة، ترفض القيود وتحن إلى الحرية، قالت وهي تجود بأنفاسها الأخيرة: أخرجوني من هذه الغرفة المغلقة، احملوني إلى «الخارجة»، أريد أن أرى ربي، وماتت قريرة العين تحت قبة السماء، ولم تقم للدحلة قائمة بعد موتها، تغيرت معالمها وتفرق أبناؤها، وربما غير اسمها كما غير اسم «أم الدود» إلى «أم الجود» من يدري؟!. لقد لقي ما كتبته عن «الدحلة» في تلك السنوات والحمد لله الكثير من تجاوب القراء وتعاطفهم وقد اطلعت الأستاذة سلمى الخضراء الجيوسي على ما كتبته عن «الدحلة» وأعجبت به وأوصت بترجمته إلى اللغة الإنجليزية ونشره في الكتاب الذي أصدرته جامعة تكساس بالولايات المتحدة الأمريكية، وقد صدر الكتاب سنة 2002 بعنوان: Remembering childhood in the Middle East (ذكرى الطفولة في منطقة الشرق الأوسط) وهو يضم مجموعة من كتاب وأدباء البلدان العربية وتركيا وإيران، وكانت الدكتورة الجيوسي ممن أسهموا في سرد ذكرياتهم القديمة عن مرحلة الطفولة، وكانت في عكا - فلسطين.

فلسطين الحبيبة التي ندعو الله أن تعود إلى أهلها الأوفياء الأبطال المشردين.