الجامعات الحكومية الناشئة..والسباق المحموم

إنشاء جامعة «بالمفهوم الأكاديمي الحقيقي» يعد أمرا ليس سهلا ومشروعا معقدا وحساسا، ويتطلب وجود بيئة مناسبة وكوادر بشرية علمية مميزة ذات عمق معرفي ومهني يقوم عليها هذا المشروع

إنشاء جامعة «بالمفهوم الأكاديمي الحقيقي» يعد أمرا ليس سهلا ومشروعا معقدا وحساسا، ويتطلب وجود بيئة مناسبة وكوادر بشرية علمية مميزة ذات عمق معرفي ومهني يقوم عليها هذا المشروع

الثلاثاء - 29 يوليو 2014

Tue - 29 Jul 2014



إنشاء جامعة «بالمفهوم الأكاديمي الحقيقي» يعد أمرا ليس سهلا ومشروعا معقدا وحساسا، ويتطلب وجود بيئة مناسبة وكوادر بشرية علمية مميزة ذات عمق معرفي ومهني يقوم عليها هذا المشروع.

والناظر إلى الجامعات الحكومية الناشئة أكاديميّا في المملكة وعددها تقريبا 17 جامعة (طبعا بعد أن نستثني السبع الكبار، ونستثني جامعات الملك خالد وطيبة والقصيم والدمام التي توجد بها كليات ذات عمق معرفي وكوادر لها مكانتها وخبرتها)، يلاحظ أن أغلب هذه الجامعات الناشئة تشكلت من كلية أو كليات بعيدة عن المركز، ثم مرت بعد الاستقلال عن الجامعات الرئيسة بتحديات وصعوبات أذكر منها:

صعوبة الحصول على أعضاء هيئة تدريس من السعوديين والمتعاقدين المميزين؛ فالسعوديون الذين يمكن أن يعوّل عليهم في إعطاء قيمة أكاديمية لهذه المؤسسات أغلبهم تحتاجهم الجامعة في مناصب إدارية أو مواقع قيادية، وبالتالي تكون الأولوية للعطاء الإداري وليس التدريسي.

وبالنسبة إلى المتعاقدين فإن الجامعات العالمية والخليجية تتنافس عليهم بشدة وتعطي حوافز مادية عالية. وعلى مستوى الجامعات السعودية أيضا هناك تباين في الحوافز الممنوحة من كل جامعة، وإذا ما نظرنا مثلا إلى كليات الطب فهناك في المملكة فقط أكثر من عشرين كلية طب، فمن أين ستوفر الجامعات الناشئة أساتذة مميزين أو (نصف مميزين) لهذه الكليات؟

ومن تلك المشكلات اشتمال هذه الجامعات على كليات للبنين والبنات انضمت إلى وزارة التعليم العالي مؤخرا وليست التجربة الأكاديمية العلمية والبحثية فيها على النحو المرجو، لأن الهدف التعليمي البحت كان رسالة هذه الكليات وخصوصا كليات البنات التي عانت قبل تبعيتها للجامعات ضعفا ملحوظا في البنية الأكاديمية، وبلا شك فإن أثر هذا الضعف لن يزول مباشرة.

ومن تلك المشكلات أيضا كون أغلب التخصصات في هذه الجامعات من التخصصات النظرية غير المطلوبة في سوق العمل بشكل كبير؛ حيث انتشرت منظومة ما يسمى «كلية العلوم والآداب»، وبالتالي فإن هذه الجامعات تصدِّر البطالة وتعيد فعل أكثر الجامعات الرئيسة بمستوى جودة أقل، والحق أنها لم تنجح حتى الآن في تقنين القبول في التخصصات وعمل نوع من التوازن يضمن عدم انقطاع الخريجين في أي فرع علمي مع النظر إلى واقع توظيف خريجي القسم، ويتصل بهذا الأمر عدم قدرة هذه الجامعات على التخصص (كجامعة الملك فهد للبترول والمعادن التي تخصصت في العلوم الهندسية والتطبيقية)، فالجامعات الناشئة هي في الغالب مشتملة على تخصصات مكررة وليس هناك تفرد لجامعة منها (عدا جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية التي تعتبر استثناء من الجامعات الناشئة).

ويزيد القلق حول مستقبل الجامعات الناشئة تسرعها وسباقها المحموم إلى طرق «أبواب الدراسات العليا»، وقد ذهلت حين رأيت عدد البرامج التي تقدمها بعض هذه الجامعات في الدراسات العليا حين حضرت المعرض والمؤتمر الدولي للتعليم العالي، على الرغم من عدم استعداد الأقسام العلمية بهذه الجامعات لذلك من حيث الخبرة والدرجات العلمية لأعضاء هيئة التدريس وعدم وجود جدوى لفتح بعض البرامج.

ومن المشكلات أيضا المبالغة في الاهتمام بالجوانب الإعلامية والشكلية والتقنية كالتعليم الإلكتروني والأسئلة التحصيلية بشكل مفرط، وأنا لست ضد هذا الأمر بالكامل، لكن إذا لم يكن هناك توازن في الاعتماد على التعليم الإلكتروني والتقويم التحصيلي فإن ذلك سيؤثر سلبا على مخرجات البرنامج الأكاديمي وسيكون الخريجون ضعفاء في التفكير والتحليل الذي هو جوهر العملية التعليمية؛ إذ من المؤسف أن تجد طالبا دخل الجامعة وتخرج فيها وتقويمه فقط قائم على الأسئلة الاختيارية والصح والخطأ، وقد لا يكون كتب مقطعا واحدا طيلة هذه الدراسة.

إن الضعف حين ينتقل إلى مؤسسات التعليم العالي فهذه مشكلة كبرى، وإذا كنت أشرت فيما سبق إلى عدد من جوانب القصور في الجامعات الناشئة فإن هذا لا يعني عدم وجود بعض المشكلات في الجامعات القديمة، كما لا يعني ذلك أن جميع هذه الجامعات الناشئة متخمة بهذه المشكلات، فالأمر نسبي، غير أن امتلاك الرؤية والسير بتوازن في التطوير والتحسين والتركيز على جوهر العملية الأكاديمية أمر ضروي. وفي المقابل فإن الاستعجال بفتح البرامج والأقسام والكليات والعناية بالكم دون الكيف، والتركيز على الجوانب الإعلامية البحتة والشكلية لن يحقق لأي جامعة ما تطمح إليه ويطمح إليه الوطن.

إنها دعوة للجامعات الناشئة أن تتريث في بناء برامجها وخططها التطويرية والاستراتيجية، وأن تُعنى بالجانب العلمي الأكاديمي أولا، وهي دعوة إلى وزارة التعليم العالي ومجلس التعليم العالي لوضع الأطر التي من شأنها أن تضبط هذا الواقع، وأن تكبح من جماح هذا السباق وتجعل الأمور تسير بتخطيط وتوازن.