في لعبة اللوم السياسي!
طريقة توجيه اللوم هي أحد مفاتيح رؤية التفكير العربي في الأزمات والصراعات السياسية، فعند كل حدث أو كارثة تبدأ هذه الممارسة الذهنية بالحضور في الخطاب الإعلامي
طريقة توجيه اللوم هي أحد مفاتيح رؤية التفكير العربي في الأزمات والصراعات السياسية، فعند كل حدث أو كارثة تبدأ هذه الممارسة الذهنية بالحضور في الخطاب الإعلامي
السبت - 12 يوليو 2014
Sat - 12 Jul 2014
طريقة توجيه اللوم هي أحد مفاتيح رؤية التفكير العربي في الأزمات والصراعات السياسية، فعند كل حدث أو كارثة تبدأ هذه الممارسة الذهنية بالحضور في الخطاب الإعلامي والتحليلات السياسية والمواعظ الدينية وحتى القصائد الشعرية. يتأثر هذا الوعي مع أي تغيير في معطيات الواقع بأسلوب توجيه اللوم للمتسبب بأزماتنا الوطنية والقومية. خلال عدة عقود تنمطت الكثير من الجمل اللفظية، وأصبحت جزءا من أدبيات كل اتجاه. مرور أكثر من نصف قرن على فشل الكثير من الدول العربية وأنظمتها، كان سببا في ظهور تصدعات منطقية في توجيه اللوم السياسي بعد أن استهلك خطابيا، ولم يعد تكرارها مناسبا كتعويذة مخدرة للشعوب، وأصبح كل شيء مكشوفا.
أخذ توجيه اللوم يبحث عن صيغ أكثر عقلانية.. بعضها نقد حقيقي، وبعضها تشكل وفقا لمصالح آنية لتبرير واقع معين. توجيه اللوم هو أسلوب نفسي وتكتيكي للتخلص من المسؤولية تمارسه أنظمة ودول عظمى أو حتى تنظيمات وعصابات، ولقد حافظت الأنظمة العربية على طريقة لوم معينة تفسر بها فشلها السياسي داخليا وخارجيا لعدة عقود، حتى فاجأها الربيع العربي واهتزت الكثير من هذه التعبيرات النمطية.. وهي الآن تعيد ترميمها من جديد.
في مجال الصراع العربي الإسرائيلي وقضية فلسطين، ترسخت تعبيرات عربية سائدة إعلاميا في توجيه اللوم للعدو الصهيوني أو للغرب وأمريكا، وتستعمل بدرجات مختلفة ما بين الخطاب الثوري القومي أو الإسلامي.. إلى خطاب الأنظمة الرسمية، وأصبح التنديد والإدانة العربيان مصدرا لسخرية الشعوب من أنظمتها. منذ مؤتمر مدريد وشعارات السلام - التي تبين وهمها لاحقا - دخل خطاب الصراع العربي الإسرائيلي لغة جديدة بحثا عن صيغ عقلانية وتبريرات للهزيمة، تحت شعار لقد جربنا العنتريات والحروب فلنجرب السلام والتنمية. أخذ اللوم يتجه للذات أكثر، ويخفف من حدته للآخر الغرب وإسرائيل خلال التسعينات الماضية، بدرجات مختلفة، واستمتع كثيرون بنقد الذات حتى أعلن عن وفاة العرب.. مع إظهار لقوة إسرائيل. كانت في البدايات تأتي على استحياء وبصيغ مهذبة، وعقلانية كتحليل سياسي قبل أن تتطور إلى خطابات مشوهة.. لأصل القضية مع العدو الصهيوني من أجل مصالح سياسية موقتة.
مرور الزمن أفقد فكرة السلام بريقها العقلاني تدريجيا، واتضحت للعرب معطيات جديدة، وتأكد الجميع بأن إسرائيل لا تريد السلام أو أي حل مهما كان حجم التنازل، وأنها تريد الاستفادة من عدم توازن القوى إلى أقصى زمن ممكن، وأنها فعلا لا تريد التفاهم لا مع الصقور ولا الحمائم في الجانب الفلسطيني، وحصار ياسر عرفات وقتله للتخلص منه.. هو إعلان نهاية حقيقي لفكرة السلام ذاتها بحلمها المدريدي أو الأوسلوي.
عندما حضرت لغة نقد ولوم الذات لتقويم الفعل الفلسطيني والعربي في بداية التسعينات وبعض محطات السلام الفاشلة، لم يكن يفهم منها تحميل الضحية المسؤولية وتبرئة للقاتل. كانت تأتي في إطار التحليلات السياسية المتزنة، فكان مقبولا توجيه اللوم والنقد لتجربة النضال الفلسطيني بتياراته وأحزابه وجماعاته، حيث تراكمت الكثير من الكتابات والآراء النقدية في الإعلام والمؤتمرات والكتب خلال أكثر من عقدين، فلغة الشعارات والعنتريات العربية القديمة انتهت موجتها فعليا منذ نهايات الحرب الباردة، وهذا لا يمنع من وجود عينات منها.
عندما تأتي هذه اللغة النقدية في لحظات التدمير والقتل بآلة العدو الصهيوني، فإنه يصعب تبريرها وتلطيفها، وستفهم بأنها تأييد للعدوان وفي أحسن حالاته تبرير وكأنه ردة فعل.. لا يختلف عن لغة مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة، فكيف إذا كانت ساخرة! وعندما تصبح هذه اللغة محسوبة ولو بطريقة غير مباشرة على جهات أو مؤسسات اعتبارية فإن الكلفة الأخلاقية والسياسية عاليا جدا.. لا يمحوها الزمن، ولا يجب أن يكون التبرير عن عجزنا وصعوبة الحلول السياسية العملية أن يتحول الخطاب الإعلامي إلى لوم الضحية.
مع هذه التشوهات المؤسفة التي حدثت في خطاب القضية الفلسطينية، فإن اللافت مؤخرا وجود أصوات وأقلام شبابية ليست تقليدية في مواقع التواصل، قادرة على أن تواجه الكثير من الحجج السياسية من مخلفات مرحلة كوبنهاجن، واستطاعوا بالعديد من الآراء الحيوية تفنيد العديد من المغالطات، والتي بحاجة لعرض نماذج منها لاحقا. هذا الطرح ليس محسوبا على الخطاب الإسلامي، وقد كان لهم دور فعال في مواجهة لعبة اللوم السياسي. إسرائيل لم تدع الفلسطيني بحاله.. تضيق عليه رزقه، وتقتله، وتكتم أنفاسه، ولا يريد هؤلاء من الضحية أن (ترفس) ويستنكرون صراخها بحجة ضبط النفس!