ترمذ عروس نهر جيحون

وقتما عزمت على زيارة مدينة إمام الحديث محمد بن عيسى الترمذي، لم أدر أنها تقع في أقصى الجنوب الغربي من أوزبكستان، على الحدود مع أفغانستان، وأن الأمر يستلزم أن أغيّر خطتي الأولية بالذهاب برّا،

وقتما عزمت على زيارة مدينة إمام الحديث محمد بن عيسى الترمذي، لم أدر أنها تقع في أقصى الجنوب الغربي من أوزبكستان، على الحدود مع أفغانستان، وأن الأمر يستلزم أن أغيّر خطتي الأولية بالذهاب برّا،

الأربعاء - 09 يوليو 2014

Wed - 09 Jul 2014



وقتما عزمت على زيارة مدينة إمام الحديث محمد بن عيسى الترمذي، لم أدر أنها تقع في أقصى الجنوب الغربي من أوزبكستان، على الحدود مع أفغانستان، وأن الأمر يستلزم أن أغيّر خطتي الأولية بالذهاب برّا، ليتسنى لي رصد ما أمكن من مشاهدات في تلك البلاد، فكان مما لا بد منه الذهاب بالطائرة، لأن ترمذ بعيدة جدا عن العاصمة طشقند، الطرق البرية متعبة جدا للسائح.

كنت خصصت يومين كاملين لزيارة المدينة، ولكن المكتب السياحي الذي تعاملت معه، أخطأ في أخذي من الفندق، فقد وهم أن الرحلة في السابعة، بينما كانت في الخامسة عصرا، ففاتتني الرحلة، ولكني أدركت في ضحى اليوم التالي الرحلة المتجهة لهذه المدينة.

المدينة صغيرة، وأنا أطالعها من علو، عبر الطائرة الصغيرة التي استقلها؛ ألفيت أنها تقوم على الضفة الشرقية من نهر جيحون الجميل، والمزارع تمتد على مد النظر، خصوصا القطن.

لذلك لم أتعجب من حضورها الكبير في كتب الرحالة العرب القدامى، وعلمت أنها كانت حاضرة بلاد ما وراء النهر، فالوكيبيديا تعرّف المدينة بقولها “ترمذ مدينة مشهورة، من أمهات المدن تقع على مجرى نهر جيحون، على الجهة الشرقية لجمهورية أوزبكستان، يحيط بها سور، وأسواقها مفروشة بالآجر.

من مشاهيرها: الإمام أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي صاحب الجامع الصحيح، أحد الأئمة في علم الحديث، وهو تلميذ الإمام البخاري، فتحها المسلمون في خلافة عبدالملك بن مروان، حكمها السلاجقة والمغول والأزابكة”.



الإغريق وترمذ



كانت درجة الحرارة عالية، في الوقت الذي زرت فيه المدينة، نهاية شعبان من هذا العام، والناس لا يتواجدون في الشوارع التي كانت شبه خالية، مع أننا ما إن وقفنا في الظل حتى انخفضت ما بين 8 و10 درجات بسبب البساتين والأشجار، مع نسيم لطيف يدغدغ وجنتك في تلك الهاجرة.

وعرفت سبب تسمية المدينة بهذا الاسم الذي أطلقه عليها الإغريق ويعنون به: المكان الحار.



الفتح الإسلامي



وبحسب موقع آسيا الوسطى، دخلها المسلمون عام 56هـ- 676م عندما فتحها سعيد بن عثمان بن عفان صلحا، ثم أعاد فتحها موسى بن عبد الله بن خازم عام 69هـ- 689م، وانتفض أهلها ففتحها قتيبة بن مسلم نحو عام 93هـ- 711م.حكمها السلاجقة والمغول والأوزبك.

وينسب إليها محمد بن عيسى الترمذي، تلميذ البخاري صاحب الصحيح، وتوفي فيها عام 279هـ- 892م.

وكتاب السنن- المعروف بسنن الترمذي - أشهر مصنفاته، وله مصنف الجامع، وكتاب العلل وغير ذلك.

كما ينتسب إليها شيخ الشافعية في العراق محمد بن أحمد بن نصر الترمذي الشافعي، أبو جعفر، والمعروف باسم أبي جعفر الترمذي، الذي ولد عام 201هـ- 816م، وتوفي عام 295هـ- 907م، وهو صاحب كتاب “مجموع شرح المهذب”.

ومن شخصيات ترمذ: الصوفي محمد بن علي بن الحسن بن بشر الترمذي، والمعروف باسم الحكيم الترمذي، المتوفى عام 320هـ- 932م.من مصنفاته: “ختم الولاية”، و”علل الشريعة”، و”حقائق التفسير”



نهر جيحون



لم أستطع تصوير نهر جيحون من قريب، حيث كانت الإجراءات الأمنية على أشدها، فمن المطار أخذوا جوازاتنا، ودققوا فيها، وأعطونا إياها بعد فترة انتظار، وقال مرافقي هناك وكان في العقد الثالث من عمره، بأنه أدرك قبل ثلاثين عاما المدينة، إبان الغزو السوفيتي لأفغانستان، وكانت ترمذ هي مدخل هذه القوات لأفغانستان، وتحولت لمنطقة عسكرية محظورة، ليس فيها إلا العسكر ببساطيرهم ودباباتهم.

وعندما رحل السوفيت مدحورين، وتشظت بلادهم، واستقلت تلك الجمهوريات الإسلامية، أتت إلى ترمذ - من وحي حرب أفغانستان - القوات الأمريكية، وهي الآن مركز عسكري أيضا للأمريكيين والقوات المتحالفة معها.

لذلك لم أستطع الاقتراب من نهر جيحون، لأن على الضفة الأخرى مباشرة أفغانستان، حيث ألمح الثكنات العسكرية، وشتان ما بين ضفتي النهر، الذي رأيت ماءه من بعيد صافيا وأزرق، ينساب بقوة من جبال بامير وجبال طاجكستان.

ويسير نهر جيحون باتجاه الغرب إلى أن يصل إلى مدينة ترمذ فاصلا بين خراسان وبين بلاد ما وراء النهر ويعرف الأهالي هناك نهر جيحون باسم ماله، ومنها يتَّجه شمالا فاصلا أيضا بين خراسان وبلاد ما وراء النهر، بحيث تصبح ترمذ في جانبه الشرقي في أرض ما وراء النهر، ويقابلها بلخ في الجانب الخراساني.

ويلاحظ أن النهر يستبحر ماؤه في أرض ترمذ وبلخ بعد أن تنجلب إليه مياه عظيمة، أما بعد ترمذ فإن مجراه يضيق ثم ينبسط عند زم الواقعة على جانبه الغربي في مقابلة رمال غزيرة في الشرق تؤدي إلى نخشب، ومن ثم إلى سمرقند في بلاد الشاش.

ويستمر النهر في مسيره إلى آمل الخراسانية المقابلة لـ”فربر” التي يؤدي طريقها إلى بخارى، وينتهي النهر إلى خوارزم في البحيرة المعروفة بالجرجانية التي هي بحر (الآرال) الذي يصب فيه أيضا نهر فرغانة، والشاش من بلاد ما وراء النهر.

علما أنني رأيت النهر في خوارزم متربا متسخا، يسيل بهدوء، وقد ضعف دفقه، وسألت في خوارزم عن بحر الآرال فأخبروني أنه جف بسبب قلة تغذية الروافد المائية له، والسحب الكبير لمائه.





ما هي بلاد ما وراء النهر؟



سألني بعض المحبين عقب قراءتهم الحلقة السابقة في “مكة” الخميس الماضي، عن “بلاد ما وراء النهر” التي استخدمتها في كتاباتي وما المقصود بها، وما هي تلك البلاد التي كان المؤرخون العرب يطلقون هذا الوصف عليها؟ والحقيقة أنني قرأت ابن كثير وغيره يطلق هذا الاسم، وعدت للمراجع التاريخية، ووجدت نصا للمؤرخ عبدالرحمن الفريح، حيث ساق ما قاله ياقوت الحموي في معجم البلدان عن بلاد ما وراء النهر، حيث قال: “يراد به ما وراء نهر جيحون بخراسان، فما كان في شرقيه يقال له بلاد الهياطلة، وفي الإسلام سموه ما وراء النهر، وما كان في غربيّه فهو خراسان وولاية خوارزم، وخوارزم ليست من خراسان إنما هي إقليم برأسه”.

كانت بلاد ما وراء النهر تُعرف في الماضي ببلاد تركستان الكبرى، وعندما فتحها المسلمون العرب في القرن الأوَّل الهجري أطلقوا عليها: “بلاد ما وراء النهر”، ومعناها البلاد الواقعة خلف نهر جيحون (أموردريا) وسيحون (سيردريا)، وهي منطقة شاسعة عظيمة الاتِّساع، تمتدُّ من تركيا غربا حتى حدود الصين شرقا، وقد باتت مقسَّمة إلى تركستان الشرقيَّة وتركستان الغربيَّة، وتضم تركستان الغربيَّة دُولاً خمسا هي: طاجيكستان، وتركمانستان، وقيرغيزستان، وأوزبكستان، وكازاخستان، بالإضافة إلى أذربيجان التي يشملها إقليم القوقاز مع جمهوريات وأقاليم أخرى ذات استقلال ذاتي في جمهوريتي أرمينيا وجورجيا”.





عرب ترمذ وضريح الإمام



ما جعلني حريصا على زيارة هذه المدينة، هو إمام الحديث أبو عيسى محمد الترمذي، ومن عجب أن ثمة (ترمذييَن) شهيرين لدى أهل المدينة، فهناك الحاكم محمد الترمذي، وهو عندهم أشهر وأجلّ من إمام الحديث، وأقاموا له ضريحا كبيرا بحديقة واسعة، ومدارس مشيدة في المنطقة التي دفن فيها، بينما الإمام أبو عيسى، يرحمه الله في منطقة بعيدة خارج المدينة، في قريته بوغ التي ولد فيها، وكنت أسأل عن السبب في ذلك، ووجدت الجواب بأن إمام الحديث يعود أصله للعرب، ومن قبيلة سُليم تحديدا، وتلك المنطقة التي زرتها يقول عنها مرافقي الترمذي إنها منطقة يسكنها العرب فقط، وإنهم لا يتزوجون إلا من داخل محيطهم الاجتماعي، ولا يزوّجون بناتهم لغير عرقهم، وعندهم التعدد رغم منعه بقانون الدولة، ويقيمون القصاص والجلد، وبعض الموروثات التي تنبئ أنهم عرب أقحاح كإكرام الضيف، والعناية بالجمال والخيول.

أصررت على رؤيتهم وزيارتهم رغم وقتي الضيق، وفعلا وجدت أحدهم، ملامحه عربية تماما، ورحب بي وأصرّ على ضيافتي، وتضايق كثيرا عندما اعتذرت، وسألته عن نسبه، فقال: “انقطعت صلتنا بالجزيرة العربية من أوقات طويلة، ولكن نحن أحفاد العرب الأوائل الذين جاءوا لهذه البلاد، واستوطنوا هذه البلاد بعدما استطابوها، ولديّ مجموعة كبيرة من المخطوطات القديمة باللغة العربية، ورثتها من أجدادي، ولا نعرف ماذا فيها، ولو أكرمتني بالزيارة لأهديتك إياها”.

طبعا طمعت، ولكن وقتي كان ضيقا جدا، فاعتذرت منه وشكرته ورحلت وأنا ساخط على فرصة ذهبية طارت مني.





ترمذ بعيون ابن بطوطة



زار ترمذ شيخ الرحالة العرب ابن بطوطة، وقال فيها: “ثم وصلنا إلى مدينة ترمذ، التي ينسب إليها الإمام أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، مؤلف الجامع الكبير في السنن.

وهي مدينة كبيرة حسنة العمارة والأسواق تخترقها الأنهار وبها البساتين الكبيرة والعنب والسفرجل بها متناهي الطيب، واللحوم بها كثيرة وكذلك الألبان.

وأهلها يغسلون رؤوسهم في الحمام باللبن عوضاً عن الطفل، ويكون عند كل صاحب حمام أوعية كبار مملوءة لبناً، فإذا دخل الرجل الحمام أخذ منها في إناء صغير فغسل رأسه، وهو يرطب الشعر ويصقله.

وكانت مدينة ترمذ القديمة مبنية على شاطئ جيحون، فلما خربها تنكيز بنيت هذه الحديثة على ميلين من النهر، وكان نزولنا بها بزاوية الشيخ الصالح عزيزان، من كبار المشايخ وكرمائهم، واجتمعت قبل وصولي إلى هذه المدينة بصاحبها علاء الملك خداوند زاده، وكتب لي إليها بالضيافة.

فكانت تحمل إلينا أيام مقامنا بها في كل يوم”.





الفلو عروس المطبخ الترمذي



وجبة الرز الشهيرة هي “الفلو” ولها موعد مبكر يتناولونه فيه، وهناك أيضاً الأكلة البخارية الشهيرة “اللغمن”، التي يبدو طعمها مختلفا غير التي نأكلها هنا، وربما كانت الأجواء التي أنا فيها مساعدة في إحساسي بهذا الشعور، إلا أنني آكل تلك الأطباق في سني عمري المتعددة، وميزت الطعم الرائع للأكلات الشعبية هناك في ترمذ.

وحرصت على زيارة السوق المركزي، ووجدت ما جلبه المهاجرون معهم للسعودية، وما كانوا يصنعونه لوقت قريب، من المكسرات التي يطلونها بالسكر المذاب، وبعض الفواكه المجففة، والحلويات التي تفنن المهاجرون في تقديمها للمجتمع الحجازي.