"من لا يشكر الناس.. لا يشكر الله"

 

 

الأحد - 28 ديسمبر 2014

Sun - 28 Dec 2014



تجيء على الإنسان فترة من الدهر.. يسيطر عليه فيها نكش الذاكرة ونبش الذكريات..

وفى هذا أكثر من فائدة: الأولى تمرين الذاكرة ومقاومة ترهلها، ونفض بعض الغبار العالق بأرفف قديمة، ظلت رغم الأيام والأعوام وافية وفيَّةً لذكريات وأسماء ما زالت عصيةً على النسيان: والثانية، أداء الحق العلني لله ثم للناس في الشكر والعرفان.. ومع اعتقادي المطلق بأن الله تعالى يسخر من يشاء لمن يشاء، يتوجب على كل من سخر الله له أحداً من الناس أن يشكر، وكل من أكرمه الله بعون على يد أحد من البشر أن يشكر، وعلى كل من قدم للناس ما سخر من أجله أن يشكر..

فلا بد من الشكر لكل من أخذ على العطاء، ولكل من أعطى للاستطاعة والتوفيق.

في مقالة سابقة تحدثت عن رجلين شامخين سخرهما الله تعالى لي في بداية حياتي الوظيفية، عقب تخرجي في جامعة الملك سعود بالرياض. الأول كان معالي الشيخ عبدالرحمن أبا الخيل.. يوم كان وزيراً للعمل، ويوم كانت رعاية الشباب مديرية عامة تتبع وزارته.

والثاني معالي الشيخ حسن المشاري، الذي أشار علي بالانتقال إلى وزارته بحكم تخصصي في الشؤون المالية.. وتفاهم مع معالي الشيخ عبدالرحمن أبا الخيل لانتقالي للعمل معه، ولا أملك غير أن أذكره اليوم بكل خير على ما أحاطني به وقتها من عناية مشجعة ورعاية حافزة.. دفعتني بحماس للعمل نهاراً في مكتب التمثيل المالي، وفي المساء في مكتب معاليه.. ووفرت لي هذه الفرصة ثقته وثقة سمو الأمير مساعد بن عبدالرحمن بن فيصل آل سعود، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.

ذلك الرجل الأمير المدرسة التي تعلمت منه ومن مدرسته الكثير.. وتقلبت في عدة مناصب كممثل مالي في مختلف وزارات الدولة تحت إشراف معالي الشيخ حسن المشاري وسمو الأمير مساعد.

وبحق كانت هذه هي الجامعة الثالثة في حياتي التي ألتحق بها وأتخرج منها بامتياز أسهمت، بعد الله، بشكل مباشر في تشكيل توجهي في الحياة، وقد يأتي يوم أتحدث فيه في هذه السلسلة عن جامعتي الأولى والثانية، إن شاء الله.

الأمير مساعد بن عبدالرحمن، وزير المالية الأسبق في عهد الملك فيصل، يرحمه الله.. حقيقة فؤجئت بهذا الرجل، فقد كان مثقفاً ثقافة غير عادية، يتكلم في كل علم وشأن وكأنه خبير مختص، بل هو أكثر من ذلك.. يتمتع بذاكرة عجيبة تنطبع بها المعلومة بمجرد مرورها عليها مرة واحدة.

والذاكرة، سبحان الله، أنواع .. طاردة، ومسترجعة وطابعة.

كنت أدخل عليه، يرحمه الله، بالمعاملات ذوات الصفحتين أو الثلاث.. وأقرأ وهو يستمع.. وبعد أن أنهي قراءتي.. وهناك ما يستوجب المراجعة أو التوجيه.. يقول لي: ارجع إلى الصفحة كذا ففيها كذا، وكذا.. وهكذا، وهنا تعلمت أمرين:

الأول: إن صفاء الإصغاء، وحسن الاستماع يوفران الكثير من الوقت والجهد، ويعملان على حسن التركيز والتذكر.

وهذا أعفاني في مستقبل الأيام، من أن أقع في أخطاء من هذا النوع، الذي ما زال يرتكبه عدد من المسؤولين أو أصحاب الأعمال بحضورهم إلى أعمالهم شاردي الأذهان، أو استماعهم إلى موظفيهم وهم يقدمون لهم موضوعاً أو مشروعاً.. وهم في واد آخر، فتكون النتيجة عادة وقتا مهدرا وموظفا محبطا وعملا لا يكتمل في الوقت المناسب.

الثاني: ألا أكون كحامل الأسفار، لا يدري ما في بطونها أو ما تحتويه متونها..

تعلمت إن أردت أن أعرض على مسؤول أمراً.. أن أبدأ باستيعابه من حيث المفهوم والمضمون.. وعودت ذاكرتي أن تصبح طابعة تلتصق بها الكلمات وحتى أرقام الصفحات ومحتواها، الأمر الذي وفر لي الكثير من الوقت والجهد.. وهو الأمر ذاته الذي كلف العاملين معي الكثير من الجهد أيضاً.. وساعدهم على توفير الوقت.

وإن كانت أجهزة الحاسوب الثابتة والمنقولة قد فوتت علي ميزة التفوق هذه على كثير من زملائي العاملين معي اليوم من الشباب. ولكني ما زلت أفضل الذاكرة البشرية على تلك الالكترونية، ولكن بحكم طبيعة الأشياء.. فالبشرية تأخذ في الضعف بحكم السن.. بينما الأخرى تأخذ كل يوم في القوة والتطور.

رغم أن استخدامي لذاكرتي الذاتية وأنا أعمل مع الأمير مساعد أسقطني في عدد من المرات وعرضني للومه المغلف بحرصه على إحاطتي بكل أدوات العمل.. وتعلمت كما يحب وجودت في تعلمي حتى نلت ثقته.. وصار يوكل إلي مهمات صعبة.. لم تكن قدراتي وحدها هي السبب، ولكن ربما لمعرفته بوالدي، يرحمهما الله.. وكان مصدر ثقة واطمئنان، الأمر الذي دفع الأمير لاختياري ممثلاً لوزارة المالية في اللجنة التي شُكلت عند انتقال الحكم من الملك سعود إلى الملك فيصل، يرحمهما الله، وهي لجنة كانت تشرف على ما كان يعرف باسم «الخاصة الملكية». وانتدبني ذات مرة مشرفاً مالياً على وزارة الصحة.. عندما كانت هناك مشكلة مالية كبيرة طالت فيها التحقيقات عدداً من موظفيها.

كل هذه الثقة المبكرة نلتها بفضل الله ثم بدعم معالي الشيخ حسن المشاري، أطال الله في عمره.. ومتعه بالصحة والعافية.. وأسر باله وذويه.. ثم بدعم المرحوم الأمير مساعد بن عبدالرحمن.. صاحب الأفضال التي لن أنساها أبداً ما حييت.. والتي أدونها اليوم بعد رؤيتها لأولادي وأحفادي وكل رفيق وصديق.. مؤكداً لهم أن:

من يصنع الخير لا يعدم جوازيه... لا يذهب العرف بين الله والناس



"من لم يشكر الناس.. لم يشكر الله" - ( 1)

"من لا يشكر الناس.. لا يشكر الله" - (2)

"من لم يشكر الناس.. لم يشكر الله" - (3)



"من لم يشكر الناس.. لم يشكر الله" - (4)