شاهر النهاري

أنسنة المقال وعدوى التأبين

الثلاثاء - 18 أكتوبر 2016

Tue - 18 Oct 2016

الكتابة بدون نبض إنساني تعتبر قطعة معلوماتية جافة تتراص فيها الأفكار، وربما تستدير وتغادر لأبعد من المدى، ثم تعود حاملة بين جنباتها الكثير من العبر، أو أنها قد تدور حول محور فكرة بسيطة يستطيع الكاتب بأدواته أن يضخمها لتبدو أكثر أهمية مما هي، أو أن يتحامل عليها ويغلق أمام اللب فيها أبوابا عديدة فيجعلها صماء عمياء.



وأغلبية المقالات بدون إنسان تصبح خالية من عنصر الحياة، بينما بمجرد ذكر الإنسان فيها فإن الكاتب يحمل القارئ معه ليزور ذلك الشخص، بحميمية، ويستمع لأفكاره ويحاوره سواء كان هذا الإنسان حيا ملموسا يعرفه الكاتب والقارئ، أو أنه مجرد نكرة يعيش في البعد، أو شخصية تاريخية، أو مجرد خيال مآتة أو أسطورة.

أورد كلامي هنا بمحاولة لفهم ما عشناه بدهشة في عالمنا الثقافي المحلي، بعد حادثة دهس المواطن (صالح المنصور)، وكنت ممن عرفوه بعض المعرفة، واستغربت من نوعية حياته البوهيمية، ومن بسمته الواثقة رغم حالته الصحية المتردية، وعجبت من أفكاره وأيديولوجياته، التي ترحل بمن يستمع إليها لاتجاهات مشتتة.



المرحوم كان شخصية على هامش الحياة والتاريخ، وكان يرتضي بالجلوس على كرسي منزو في ندوات ولقاءات نادي الرياض الأدبي، وكان تفاعل المثقفين معه متباينا، فمنهم من ينصت إليه باهتمام، ومن يضحك معه، ومن يزيد الأسئلة، ومن يقف بعيدا، مكتفيا بالمراقبة؛ وقد سمعته مرات يتداخل في نهاية ندوة، وتتم مقاطعته بملل ممن يديرونها، وربما الاستخفاف بما كان يقول، وببعض الهمز واللمز!.



هكذا كان الوضع قبل وفاته، وعجبا كيف انقلب الأمر إنسانيا بعد رحيله، فتغيرت الأنفس، وشعر البعض بالغفلة، وربما الندم، وأمطرتنا الصحافة بأعداد ضخمة من مقالات التأبين، ربما لن ينال مثلها أكبر مشاهير الثقافة بعد رحيلهم!.

فهل نحن أمام حالة من الألم أم التناقض، بحيث يختلف حال الميت عن الحي إلى هذا الحد، ولماذا لم تكن بعض تلك المقالات في حياته، لنسمعه إنسانيتنا ومشاعرنا قبل الرحيل؛ رغم معرفتنا بأنه وحسب حالته الصحية، يهجر، ويرحل.



ما هذه المتلازمة المتناقضة الغريبة بالتعامل مع الموتى، وبما لا نظهره لهم في الحياة، وهذا ليس على المستوى الثقافي فقط، فكم من قريب لنا، وكم من شخص منسي على أرصفة أعمارنا، سنقف يوما ونبكيهم، ونحن في الحقيقة لم نمد لهم الأيدي، ولا وهبناهم بسمة تنم عن محبة.

هل يسعى البعض من كتاباتهم عنه وعن ذكر محاسنه إلى مجرد أنسنة مقالاتهم!.



أنا لست ضد ذلك، ولكن دعونا نفعلها أثناء تنفس من يسيرون حولنا، وقبل أن يصبح كلامنا عنهم مجرد فضفضة حسرة على ظهر مقعد مائل متخيل، وطبيب نفسي يمسح أدمعنا، كطبع الإنسان المتغافل الناكر، الآتي غالبا بعد فوت الفوت ليرد الصوت.



تلك نصيحة لي وللجميع بأن نتحلل من ملابس الظروف، وأعطار الغفلة، وملالة الفكر، وأن ننزل عن الأبراج العاجية، ونبحث عما يجعل مقالاتنا مؤنسنة بالأحياء، مهما كانوا بسطاء، وأن نهبهم الروح والحركة والفكر البشري الملموس حولنا، ونشعر بنبضهم، وبشكل إنساني ينطبع في الأنفس، ولا يعود يوصف بأنه مجرد مقال تأبين لمن لم يعرف التكريم في حياته البائسة.



[email protected]