توريط الدين في السياسة
أدرك أن عنوان هذه المقالة قد يستفز بعض المتدينين المتحمسين الذين اعتادوا التعامل مع المقولات الفكرية وفقًا لمنهج (القبول والإذعان، أو الرفض والشجب) دون التعامل مع الفكر المطروح بعقلية نقدية متسائلة، فأحب أن أطمئنهم أن هذه المقالة ليست دعوة لفصل الدين عن السياسة، وإعطاء ما لله لله، وما لقيصر لقيصر؛ بل هي محاولة للتفريق بين الأنموذج الذي جاء به الإسلام في التعامل مع السياسة، وما حدث في التاريخ، وما زال يحدث باسم الإسلام،
أدرك أن عنوان هذه المقالة قد يستفز بعض المتدينين المتحمسين الذين اعتادوا التعامل مع المقولات الفكرية وفقًا لمنهج (القبول والإذعان، أو الرفض والشجب) دون التعامل مع الفكر المطروح بعقلية نقدية متسائلة، فأحب أن أطمئنهم أن هذه المقالة ليست دعوة لفصل الدين عن السياسة، وإعطاء ما لله لله، وما لقيصر لقيصر؛ بل هي محاولة للتفريق بين الأنموذج الذي جاء به الإسلام في التعامل مع السياسة، وما حدث في التاريخ، وما زال يحدث باسم الإسلام،
الأربعاء - 22 يناير 2014
Wed - 22 Jan 2014
أدرك أن عنوان هذه المقالة قد يستفز بعض المتدينين المتحمسين الذين اعتادوا التعامل مع المقولات الفكرية وفقًا لمنهج (القبول والإذعان، أو الرفض والشجب) دون التعامل مع الفكر المطروح بعقلية نقدية متسائلة، فأحب أن أطمئنهم أن هذه المقالة ليست دعوة لفصل الدين عن السياسة، وإعطاء ما لله لله، وما لقيصر لقيصر؛ بل هي محاولة للتفريق بين الأنموذج الذي جاء به الإسلام في التعامل مع السياسة، وما حدث في التاريخ، وما زال يحدث باسم الإسلام، فالإسلام جعل الدين هاديًا للسياسة، من خلال وضع قواعد كلية تحكم العمل السياسي كإقامة العدل، والمساواة بين الناس، ومراقبة السلطة ومحاسبتها، وما إلى ذلك من قواعد كلية، لكن ما حدث في التاريخ، وما زال يحدث اليوم باسم الدين هو عملية توريط للدين في مستنقع السياسة، فقد انتقل العمل السياسي من (حقل السياسة) إلى (حقل الدين)؛ فأصبحت الأدوات التي يستعملها السياسي لتحقيق طموحه السياسي أدوات دينية؛ إذ لم يتم العمل السياسي باسم السياسة والسعي للحكم، وإقامة العدل، بل كان الشعار المرفوع في كل عمل سياسي آنذاك هو شعار ديني؛ وهو اتهام السلطة بالخروج عن الدين، وأول ما بدأت هذه الممارسة الدينية للسياسة من قبل الخوارج؛ إذ كفَّروا صاحب السلطة آنذاك علي بن أبي طالب، وكل من حارب معه، أو وافقه من الصحابة وغيرهم، وأعلنوا الثورة المسلحة، وقد أصبحت فكرة الخوارج (اتهام السلطة بالخروج عن الدين) أنموذجًا للعمل السياسي في كل حقب التاريخ الإسلامي، فغالب الثورات كانت تتم باسم وجود مخلص جاء ليخلص الأمة من السلطة المارقة من الدين؛ ولهذا أضفيت على زعماء الثورات صفات (المهدي)، أو (الإمام)؛ لتكثيف الصورة الموحية للمهمة الدينية التي جاء بها.
هذا الأنموذج للعمل السياسي في التاريخ الإسلامي أحدث أربعة أمور؛ الأمر الأول: تضخم وجود الدين في السياسة؛ إذ تم توريطه في كل تفصيلات العمل السياسي، والأمر الثاني: نشوء فرق دينية وفقًا للتفرق السياسي، وقد قال قتادة أحد علماء التابعين: «إنما نشأ الإرجاء بعد فتنة ابن الأشعث»، فغالبا كان الافتراق السياسي يتبعه تنظير ديني يؤسس لفرقة دينية جديدة، وقد جرى تحويل شعوب عن مذهبها الديني إلى مذهب جديد، كما صنع ملوك الدولة الصفوية في إيران؛ لكي تصبح السلطة العثمانية آنذاك كافرة في نظر الشعب الإيراني، مما يبيح الخروج عليها، وتنصيب إمام عادل من غيرها، والأمر الثالث: ضمور العمل بالأدوات السياسية في الحقل السياسي، إذ استبدلت بأدوات دينية، والأمر الرابع: تفريق المجتمع دينيًّا إلى سلطة كافرة، ومجاهدين مخلصين في نظر المعارضة، وسلطة عادلة وخوارج في نظر السلطة القائمة.
ما الذي بقي من هذا الإرث التاريخي في واقعنا المعاصر؟
لقد بقي ثلاثة أمور؛ الأول: تضخم وجود الدين في السياسة؛ وتوريطه في كل تفصيلات العمل السياسي، وأصبح الفقيه المعاصر يصدر الفتاوى بالحل أو الحرمة في تفصيلات العمل السياسي التي لا يمكن تصورها حق التصور دون الانخراط في العمل السياسي، وقديما قال ابن خلدون عن الفقهاء: «أبعد الناس عن معرفة السياسة ومذاهبها..، والعلماء لأجل ما تعودوه من تعميم الأحكام، وقياس الأمور بعضها على بعض إذا نظروا في السياسة أفرغوا ذلك في قالب أنظارهم، ونوع استدلالهم فيقعون في الغلط كثيرًا»، ولعله من المفارقة الطريفة أن نقرأ فتوى لمراجع الشيعة في العراق بوجوب المشاركة في أول انتخابات جرت بعد سقوط صدام، وأن من تركها فهو آثم، ونقرأ لهيئة علماء السنة في العراق أن الاشتراك لا يجوز، ومن شارك فهو آثم، ونجد الصراع على مسمى (شهيد) بين الأزهر وجماعة الإخوان، فالإخوان يطلقون لفظ شهيد على من قتل من أنصارهم، والأزهر يستنكر ذلك، ويطلق لفظ الشهيد على قتلى الأمن، والأمر الثاني مما بقي من الإرث التاريخي تفريق المجتمع دينيًّا إلى سلطة كافرة، ومجاهدين مخلصين في نظر المعارضة، ونجد مصداق ذلك في أطروحات القاعدة، والداعشيين، وعصائب أهل الحق، وقريبًا من ذلك تسمية حزب سياسي لنفسه بـ(حزب الله)، وآخر يؤسس مليشيا باسم المخلص (المهدي)، وآخرون ينظرون إلى ما حدث في مصر بعد 30 يونيو على أنه صراع بين الحق والباطل، والأمر الثالث مما بقي أن واقعنا ما زال يمارس السياسة بأدوات الحقل الديني، أي أننا -سياسيًا- لم نصلْ بعدُ للعصر الحديث.