وإنا على فراقك .. يا أبا إبراهيم!

الأحد - 09 أكتوبر 2016

Sun - 09 Oct 2016

جمعت بيننا صلة رحم وثيقة منذ أكثر من ثلاثين عاما، إلا أنها في بداياتها لم تخرج عن إطار المجاملات واللقاءات في الأعياد والمناسبات.



كنت ألاحظ دائما أناقته وعنايته بهندامه الذي كان ناصع البياض دائما، كقلبه الذي لم أعرف وقع صدقه إلا قبل سنوات، حين ابتدأت العلاقة الشخصية تتوثق بشكل متسارع. العجيب هنا والجميل في نفس الوقت أن «تويتر» كان عامل تقارب من خلاله أدركت ما لديه من اهتمام بتاريخ المدينة المنورة عموما والمسجد النبوي الشريف على وجه خاص. وهكذا التقت القلوب على محبة ما تستحق الحب، ولأجلها اتسعت الدائرة فشملت ببهاء كثيرا من الوجوه الطاهرة ليس عمر المضواحي وحاتم طه وصالح حجار، عليهم رضوان الله، إلا أمثلة منيرة منها.



كان عيد الفطر هو الملتقى السنوي، وكان هو بنفس براءته منذ أول يوم التقيته. يغضي حياء... يتجاوز عمن يسيء إليه بعفو القادر وسماحة المقتدر، لا عن ضعف ولكن عن أدب وخلق كان سمة بيته. وكان تواضعه مثار مزيد من المحبة، وإيثاره موضع الإعجاب.



حين تسأله عن معلومة يتحول ذلك السؤال إلى واجب ينوء به أكثر من السائل. وغالبا ما كان يعود بأشمل مما كان مأمولا مصحوبا بنبرة صوته المتميزة التي تعتذر أنها لم تجد إلا ما وجدت، وما أعظم ما وجدت. واستغل بعض ممن لم تكن الأمانة من صفاتهم هذه الصفة فيه، فأخذ أحدهم عنه ما أخذ من ملاحظات جليلة على كتابه عن المسجد النبوي الشريف، واستوعبها في الطبعات اللاحقة من الكتاب دون أدنى إشارة إلى من كان له الفضل فيما زيد من تحسينات. وتعلل بعذر أقبح من فعله، بأن من أخذ عنه ليس له مؤلفات يدرجها مراجع، مع أنه بشخصه نعم المرجع. ومع ذلك الإنكار لم يلق بالا منصرفا إلى عون آخرين ما استطاع، غير مبال بما قد يكون من مزيد نكران. ولم يكن يؤلمه شيء قدر ما تتعرض له آثار المدينة ومعالمها من إهمال أو تعد. وكانت «لاحول ولا قوة إلا بالله» معينه على تلك المصائب التي يواجهها بيده ولسانه وقلبه.



عتبت عليه أنه أجهد نفسه باستكمال الآخرين لمعلوماتهم وإصداراتهم، وكان رده المفحم: «طيب إيش تبغاني أسوي»، وهو ما يعني أنه لن يرد أحدا قصده ولديه ما يفيده. وتحدثنا طويلا عن تفاصيل في المسجد النبوي الشريف، ربما لا يعرفها إلا هو بما استطاع جمعه من معلومات أحسن تحليلها وربطها. وكانت كل معلومة جديدة تعني تأخر ما كنا نأمل من تأليف، إذ كانت تقوده إلى معلومة وأخرى يجهد نفسها دون كلل في البحث عنها وتدقيقها. وذات يوم جاء ببشرى كان سعيدا بها معلنا أنه أصبح قاب قوسين أو ثلاثة من كتاب عن حجرات أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، أعمل فيه جهده ومحبته واستطاع تحقيق موضع كل حجرة، وتحديد مواقعها اليوم، مستنيرا بما في كتب السيرة والتاريخ، وبما استدرجه من ذاكرة من اجتمع بهم ممن تواترت إليهم معلومات لا أجل منها عن تاريخ المدينة المنورة. قلت متى قال «أبشرك قريب.. بس أتأكد من نقطتين.. ثلاث!»



كان يحمل قلب طفل في عنفوان رجل، حنونا كأم رؤوم، لم تثقل عليه الحياة أمام كم الحب الذي سكنه. وحين عرض لأحد إخوته حادث استجمع كل ما لديه من محبة وجهد ليسعى إلى ما يعيد البسمة إليه، صارفا السمع والبصر عن كل شيء.. متعلقا بعسى المتعلقة برحمة الله عز وجل. وكانت محبته لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، دليله وحافزه إلى كل توثيق قام به أو نوى. وفي آخر اتصال اتفقنا أن نلتقي في رحاب المصطفى ليريني ما لم يكن «ينفع الكلام فيه» عن بعد. وختم الاتصال بعبارته الشجية التي تمتد إلى قرون من محبة «في وداعة الله».



كنت في جوار المسجد النبوي الشريف في رحلة لم تكن مخططة من قبل. وفي الصباح فتحت الجوال لأجد رسالة كانت كافية لغمامة من شجن ودمع «أخونا في ذمة الله والصلاة عليه بعد الظهر». فزعت بآمالي إلى اليقين ووجدتني على غير هدى أجوب شوارع المدينة لأقف أمام سيد الشهداء مسلما.. لا أدري كيف وصلت إلى هناك ولا لماذا إلى هناك، ولكنه موضع شريف مهيب. وتحت ظلال القبة الخضراء كانت الصلاة والتسليمة الأقسى مؤذنة بما بعدها من تأكيد للرحيل. ودون مبالاة بالشمس اللاهبة وقف المحبون يبكون وقد اختلطت دموعهم بتراب البقيع وبمحبة لذلك النزيل الجديد.



علمت أن الليلة السابقة لوفاته كانت مناسبة فرح لم أدع لها، ربما سهوا، وكان كما علمت، فيها الحاضر المبتهج الذي ظل مشبعا بالسرور حتى غادر المناسبة.. لينتقل بعد لحظات إلى رحاب الرحمة الكبرى. وتجاذبني تساؤل مر وأسف مؤلم: ليتني علمت وحضرت، إذ كنت سأحظى منه بما عودني من ود وعلم.. وربما لو حضرت لكان الأسف أشد لوعة مع قرب اللقاء.



ومحوت «لو» فها هي اللوعة قاسية رغم كل تربيت المحبين على القلوب التي استل عبدالعزيز بالي من بينها راضيا مرضيا.. وحين حثوت التراب على قبره.. سبقت إلى لساني «في وداعة الله».