حدود التآمر في التحليل السياسي
عندما يقال بأن هناك دولا أو أنظمة استثمرت في الإرهاب وتخطط له وتوفر له الغطاء، وتفتح له حدودها وتغلقها حسب الحاجة، كجزء من طبيعة السياسة ومكرها المتوقع، عليك ألا تفهم من هذا أنه لا يوجد إرهابيون، ولا فكر متطرف
عندما يقال بأن هناك دولا أو أنظمة استثمرت في الإرهاب وتخطط له وتوفر له الغطاء، وتفتح له حدودها وتغلقها حسب الحاجة، كجزء من طبيعة السياسة ومكرها المتوقع، عليك ألا تفهم من هذا أنه لا يوجد إرهابيون، ولا فكر متطرف
السبت - 18 يناير 2014
Sat - 18 Jan 2014
عندما يقال بأن هناك دولا أو أنظمة استثمرت في الإرهاب وتخطط له وتوفر له الغطاء، وتفتح له حدودها وتغلقها حسب الحاجة، كجزء من طبيعة السياسة ومكرها المتوقع، عليك ألا تفهم من هذا أنه لا يوجد إرهابيون، ولا فكر متطرف، ولا تكفيريون فعلا. هذه لا علاقة لها بتلك. الإشارة لهذه الحقيقة عن دور دول وأنظمة توظف أي شيء يخدم مصالحها، هو ضرورة يتم تجاهلها في التحليل السياسي في حالات كثيرة، بسبب غياب الأدلة الصريحة، وكلفة الإشارة لها وتبعاتها.
لن نجد أدلة موثقة لأحداث كثيرة في أجواء سياسية معقدة ومتشابكة في أزمات كثيرة، من يكون خلف هذا الاغتيال وهذا التفجير، أو هذه العملية بدقة؟، حتى وإن توفرت بعض الواجهات لبعض الأحداث. لهذا نشهد تداخلات مربكة في مناطق ساخنة في أكثر من صراع سياسي، في أفغانستان، البوسنة، العراق، سوريا، ولبنان. هناك تاجر السلاح المهتم بجمع المال والبحث عن الأسواق المناسبة، ليس معنيا بمن يقتل من، ومن يكون مع من! وهناك المهرب المحترف الذي يوظف خبراته الجغرافية بالمكان وعلاقاته، وهناك المتطوع الصادق في الدفاع عن المظلومين وإنقاذهم، وهناك المتطوع المزيف الذي يشتغل لحساب أنظمة أخرى، وهناك التكفيري، والمتشدد، وهناك الاستخباراتي، الذي يظهر أحيانا بثوب قائد عسكري، أو صحفي ميداني، أو ناشط إغاثي! بعد نهاية كل حدث لا تكشف الأقنعة لأحد بسهولة، حيث يظل الكثير منها دون كشف لعقود طويلة، فتستمر أعمال التنقيب عن الثغرات التي من المفترض أن يقوم بها باحثون جادون، وصحفيون محترفون. هناك المئات من الأحداث في منطقتنا منذ أكثر من نصف قرن بحاجة لفحص مهني آخر، ليس محسوبا على تيارات وأنظمة.
لا تظهر مخابرات الدول والأنظمة بواجهة النشرات الإخبارية في الصراعات، لأنها لا تظهر في العلن عادة لتقول أنا فعلت هذا، بعكس التنظيمات والحركات والأحزاب التي تجد أن من مصلحتها أحيانا أن تعلن أفعالها، لتبدو بمظهر القوة. تأتي البيانات ومقاطع الفيديو والتسجيلات بعد كل حدث كقصة أخرى من الشكوك والتسريبات، وإن كان بعضها يبدو مكشوفا وغير جاذب للإعلام، كظهور «أبو عدس» بعد مقتل الحريري، الذي ربط بالنظام السوري حينها، وانتهت قصته إلى غموض كغيرها. الحركات النضالية والجهادية تجد من مصلحتها أن تتبنى بعض أعمال العنف، ولهذا من الطرائف أنه في الثمانينات أعلن عن تفجير في إسرائيل فتبنته فورا إحدى الفصائل الفلسطينية ثم تبين أنه لم يوجد تفجير أصلا!
حكاية النظام السوري وتحالفه مع إيران وحزب الله وارتباطه ببعض التنظيمات والأحزاب والاغتيالات ودورهم في صراعات المنطقة وتأزيمها ليست مجرد حديث مؤامراتي، ولد نتيجة ردة فعل انطباعية مع الأوضاع المتفجرة بعد الثورة السورية، وإنما هي جزء رئيس من بنية هذا النظام السياسي الذي احترف هذه الممارسات للبقاء في السلطة خلال أربعة عقود.
لن تجد الأدلة باعترافات مباشرة على اغتيالاته ومؤامراته وتفجيراته، التي تنحر بسهولة على طريقة نهاية غازي كنعان وزير داخليته 2005. الدليل الذي يضطر له المحلل السياسي هو الاستقراء على سيرة طويلة من الممارسات التي تؤكدها مؤشرات متراكمة. لنترك لبنان الذي ظل تحت سيطرة هذا النظام مدة طويلة، ومارس لعبته المفضلة بأكثر من طريقة. عدم استقرار العراق بعد 2003، كان لهذا النظام دوره المؤثر. في مقال لـ(كامران قره داغي) في جريدة الحياة (8 سبتمبر 2013) تحت عنوان «هكذا كان الأسد يلعب في العراق» أشار إلى أنه كان يحضر بحكم عمله اجتماعات المجلس السياسي ويعلم أن موضوع الإرهاب القادم من سوريا المدعوم من نظامه كان يثار في كل اجتماع»، وفي 27 يناير 2007 أشار إلى أن جلال طالباني كان يردد دائما أنه لا يرغب في انتقاد السوريين علانية، وسلم الأسد قائمة إضافة إلى مراكز تدريب الإرهابيين حسب قوله. وقد قال العراقيون إنهم يملكون أدلة ملموسة عبارة عن صور وفيديوهات تظهر الإرهابيين -حسب تعبيره- وهم يعبرون الحدود إلى العراق تحت أنظار حرس الحدود.
مثل هذا الطرح لم يكن متاحا قراءته بدون الثورة السورية، والآن بالرغم مما قام به البعث السوري، فإن النظام العراقي يمارس دوره في الأحداث لخدمة بقاء النظام السوري! والآن تتهم داعش بـ»محاولة السيطرة على المناطق (المحررة) وفرض رؤيتها المتشددة للحكم الإسلامي، أكثر من اهتمامها بمحاربة النظام، مما جعل التنظيم موضع اتهاماتٍ بأنه مخترق من قِبل المخابرات السورية والحرس الثوري الإيراني (موقع بي.بي.سي 12 يناير 2014). عندما لا يقدم تنظيم نفسه إلا بمقاطع فيديو بشعة ليبدو كقاطع رؤوس فقط بصورة متكررة، ولغة خشنة باستمرار، هنا تهمة الغباء لا تكفي دون التفكير في حقيقة التنظيم. التحاق أو تأييد أسماء هنا أو هناك من الإسلاميين، والتي من الصعب أن تحسب على النظام السوري أو الإيراني لا يعطي صك براءة لأي تنظيم من الاختراق وسهولته.
ومع كل هذا فالخيال التآمري يجب ألاّ يذهب بعيدا في افتراضات رغبوية، وإنما يحافظ على عقلانية صلبة تحترم العقل وأدوات الرؤية السياسية، وألا يوظف في إلغاء المشكلات الفكرية والثقافية والدينية في مجتمعاتنا. مقابل ذلك ليس من المعقول أن يقفز المثقف العربي في كل مرة إلى التقاط المشاهد والخطابات البشعة والنفخ فيها بصورة متكررة، لا تخلو من الغباء والفجاجة، ويجعلها كأنها هي السائدة.
عندما جاء الربيع العربي، كانت المشكلة المعقدة لدى البعض هي كيفية ابتكار سيناريو مؤامراتي سهل التصديق، ويبدو منطقيا وليس مضحكا، كما قدمته مثلا مبالغات الإعلام السوري والقنوات والصحف المحسوبة عليه في المنطقة عن دور المثقف الفرنسي اليهودي برنارد ليفي كمهندس للربيع وقائد خفي له. أو محاولة البعض النفخ في وائل غنيم ووظيفته المهنية في الانترنت. أو تصوير بعض الدورات واللقاءات بالفنادق وكأنها المحرك لكل الانهيارات والكوارث التي شهدتها المنطقة.