البهتان

امتداداً وتواصلاً لما سبق الحديثُ فيه عن ممارسات وآفاتٍ تورد أصحابها نار الجحيم

امتداداً وتواصلاً لما سبق الحديثُ فيه عن ممارسات وآفاتٍ تورد أصحابها نار الجحيم

الأحد - 20 أبريل 2014

Sun - 20 Apr 2014



امتداداً وتواصلاً لما سبق الحديثُ فيه عن ممارسات وآفاتٍ تورد أصحابها نار الجحيم.. ورغبةً في مكافحةٍ هذه الأمراض الاجتماعية والأخلاقية الهادمة لحرمة المجتمع والهاتكة لأعراض الناس، والمتعرضة لخصوصياتهم التي كفلها لهم الدين، وصانتها الأعراف والأخلاق الحميدة.. تناولت في مراتٍ سابقةٍ الغيبة والنميمة.. وكيف تأتي هاتان الآفتان على كثير من تلاحم المجتمع وتقضي على روح الأمان فيه.

وأوردتُ نصيحة المصطفى صلى الله عليه وسلم لأبي ذر وهو يوصيه “يا أبا ذرَّ إياك والغيبة، فإن الغيبة أشدُّ من الزنا...”

ولقد حذره صلى الله عليه وسلم قائلاً:

“يا أبا ذر،سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه من معاصي الله، وحرمةُ ماله كحرمة دمه”.

ولقد أكد الحديث الشريف الذي رواه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

“لا يدخل الجنة نمام”.

واليوم، وبعون الله، أواصل الحديث معكم عن الآفة الثالثة: “البهتان”.

وفي الآية الثانية عشرة بعد المئة، من سورة النساء.. يقول العزيز الحكيم:

“ومن يكسب خطيئةً أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً”.

ولقد وردت كلمةُ “بهتان” في كتاب الله ست مرات، والبهتان هو أن تتهم أخاك المسلم بما ليس فيه، وتتجنى عليه بأعمال لم يقم بها، وجرمهُ أكبر من الغيبة وإثمه أشد.

والبهتانُ لغةً: الكذبُ المفترى.

واصطلاحاً: هو الكذبُ الذي يبهت سامعه، أي يُدهشُه ويُحيُره.

والبهتانُ أفحشُ الكذب، لأنه إن كان عن قصد يكون إفكاً.

وعادةً ما يقترن ذكر البهتان بالافتراء والكذب، حيث تشترك جميعها في عدم مطابقة الخبر للواقع.

ويقول الله تبارك وتعالى، فيمن ينقلُ عن المؤمنين والمؤمنات ما لم يفعلوه:

“والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً” (الأحزاب 58 )

ولكم أيها الأعزاء أن تتخيلوا كم من الآثام تحملَّنا، وكم من الذنوب ارتكبنا لمجرد أننا استسلمنا لشهوة الكلام.. والكلامُ مفتاحُ كبائر اللسان، فيه الكذب والغيبة والنميمة والبهتان، وفيه شهادة الزور (وهي ما سوف أتحدث عنه إن شاء الله في لقاء قادم)، وإليكم مواضع هذه الآيات الكريمات التي تؤكد على تحذير القرآن الكريم من هذه الصفات الذميمة:

* الاختلاف والتفرق والتحزب: (البقرة آية 213)

* التعصب والتقليد الأعمى: (الزخرف آية 23،24 )

*الِكبْر والحسد والحقد والكراهية: (الشورى 14)

وكل هذا يُولدُ استمراء الكذب والغيبة والنميمة والبهتان.

وكلها أدواءُ تتولد من بعضها وتتكاثر..

يقول أبو هريرة رضي الله عنه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

“أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكره. قيل: أفرأيتَ إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهتَّه.

وقال العلماءُ في البهتان: “في آخر الزمان قوم بهَّاتون، عيابون، فاحذروهم، فإنهم أشرار الخلق، ليس في قلوبهم نور الإسلام لا يرتفعُ لهم إلى الله عمل”.

وأعود اليوم مرةً أخرى، لأشير بشيء من الحسرة إلى مواقع التواصل الاجتماعي والتي أصبحت تقنياتها ووسائطها في متناول الصغير قبل الكبير، بعدما أمست مرتكزاً أساسياً لاستقاء المعلومة وتشكيل الرأي، بوعي وبدون وعي.

ولقد أصبح من الممكن لممارسي البهتان والافتراء أن يشكلوا الأمر حسب ما يشتهون وحسب ما تسول لهم أنفسهم المريضةُ ذلك.

فتبدو الفرية وكأنها حقيقة راسخة ويظهر البهتان على أنه واقع لا يقبل الجدل.

وليست هذه هي المصيبة وحدها، بل الأدهى من ذلك والأمر.. أنها أصبحت قادرة على جعل الحقيقة باطلاً ومكان شك دائم.. إذا رُميتِ الحقيقة صورةً أو مشهداً ببهتانِ هذه التقنيات، والذي بات قابلاً للالتصاق بها بفعل الخدع والحيل التي يمكن لهذه الوسائط ارتكابُها.

ولست في حاجةٍ لسرد الوقائع والقصص التي كانت عاقبتها خرابا لبيوت، وتدميرا لسمعة نفر أبرياء.

فأنا على يقين من أنه سيأتي يوم تتجلى فيه براءتهم على كل حيلةٍ وبهتان.

وهذا اليوم آت لا محالة، إما هنا.. أو هناك، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

وإني لأسأل هؤلاء البهاتين: ماذا تجنون من وراء بهتانكم؟! والجواب وإن لم ينطلقوا به معروف، حين تستيقظُ منهم الضمائر التي غطت في سباتٍ عميق ولا بد لها يوماً أن تصحو وتستفيق.

وحينها يكون جوابهم: لم نجن غير الندم وعذاب الضمير.

وكم أرجو أن تكون لهم فسحة من الأجل، وأن لا يسلبهم الأملُ هذه الفرصة الأخيرة، وأن لا يغرنهم بالله الغرور وأن يقبلوا على طلب السماح والعفو من الله أولاً، ثم ممن بهتوهم.. إثماً وعدواناً.. أن يعودوا إلى كرم الفطرة التي فطر الله الناس عليها.

إنَّ الكريمَ إذا تقضَّى ودُّه

يُخفي القبيحَ ويظهرُ الإحسانا

وترَى اللئيمَ إذا تصرَّم حبلُه

يُخفي الجميلَ ويظهرُ البهتانا