مدرسة فوق قمة العناء
الأربعاء - 14 سبتمبر 2016
Wed - 14 Sep 2016
سامحوني على أخذكم معي في جولة عبر آلة الزمن، لبدايات وصول التعليم إلى قمم جبال تهامة، في جنوب وطننا الغالي، حيث كانت المدرسة تضم حوالي عشرة أطفال، ومدرس متخرج من مدرسة المعلمين الابتدائية، ومدير مهاب شديد، يعرف أهالي الطلبة فردا فردا، رغم حضورهم يوميا من قرى متباعدة.
المدرسة بناء قديم من الحجر الأسود، بحجرات قليلة، ليس بينها دورة للمياه.
الفراش الأمي يحصي الحضور في الصباح الباكر، ثم يخبر المدير بأسماء المتغيبين، والذي يكلفه بالطواف على بيوتهم ممتطيا ظهر حماره، للاستقصاء عن أسباب تغيبهم، فإن كان ذلك بسبب مرض، تمنى لهم الصحة وتركهم، وإن كانت بأسباب اشتغالهم مع أهاليهم في الرعي، أو الحرث، أو السقاية، أو في مناسبة عائلية سحبهم من آذانهم غير عابئ بعويلهم، حتى يلحقوا بالدرس بعد المرور على فلكة المدير.
الأهالي لم يكونوا يغضبون من ذلك، فلهم العظم، وللمدير اللحم، كما اتفقوا معه منذ البدايات.
المدرس متعدد المواهب لم يكن يتكاسل عن تدريس اللغة والقراءة، والحساب، وشيء من الألعاب، ولكنه يترك درس القرآن لحضرة المدير، الذي لا يحلو له أن يعطيهم حصته إلا بعد صلاة الظهر، وكم يكون هذا متأخرا على الطلبة، قياسا بالمدارس القليلة الأخرى.
الطالب المستور كان يحضر للمدرسة، وهو يمتشق فوق كتفه المخلاة، حاملا فيها لوح الكتابة والفحمة، وقد يتهيأ له أن يدس معهما قطعة من خبز الميفا، وربما يتقاسمها مع أعز زملائه.
أما المتنعم منهم، فإنه يحضر من بيته وهو يحمل وعاء عريكة أو سويقة يخص بها المعلم، وقد يدعو بعض زملائه لتناولها.
المحظوظ يلبس حذاء، وربما يأتي محمولا على ظهر حمار، والمنكود يأتي بأقدام حافية دامية من الشوك.
الفصل لا يزيد عن غرفة ذات نافذة صغيرة، تهب بالصقيع في الشتاء، ويتوسطها بساط خوص أو حنبل يتجمع الطلبة فوقه في وضعية تسمح لهم بمتابعة حركة طبشورة المدرس، وهي ترسم لهم أحلامهم على اللوح الأسود.
لم يكن للطلبة سوى يوم الجمعة فرصة يرتاحون فيه من مشوار المدرسة، ولو أنهم لو حدث وشاهدوا أحد العاملين بالمدرسة زائرا لأحد بيوت قريتهم، تركوا ما بين أيديهم من ألعاب، واختفوا عن هيبة وجوده.
وتوشك السنة الدراسية على الانتهاء، ويتم عمل احتفال صغير، قد يحضره بعض أهل القرية، فيقوم فيه الطالب النجيب بقراءة آيات من القرآن، ثم يتلوه جهوري الصوت بقصيدة فصيحة عصماء، وربما يقوم طالبان أو أكثر بتمثيل حوار تم تحفيظهم إياه، ثم ينقلبون إلى أهاليهم إما ناجح، وإما موعود بالعودة للدور الثاني.
وقد كان بعض الطلبة لا يقفون عند السنوات، حين تكون نباهتهم مرتفعة، فيقفزون حواجزها، حتى يعودوا بسن مبكرة، للتدريس في قراهم.
وبالمناسبة، فقد كان مستوى الدراسة، رغم كل تلك الظروف متميز، ويؤدي الغرض منه، فيصبح الطلبة مدرسين، وموظفين، ومدراء، وضباطا في الجيش والأمن، بل إن البعض منهم كان يحظى بالابتعاث إلى الخارج، والعودة بشهادات عليا.
حكايتي هذه أنقلها لكم عن لسان من عاصر ذلك الزمان، وأطرحها هدية لمعالي وزير التعليم، ولبعض مدرسين يؤدون مهنتهم تكاسلا، ولطلبة مدللين، مبدعين في تحطيم خطوات مستقبلهم.
[email protected]
المدرسة بناء قديم من الحجر الأسود، بحجرات قليلة، ليس بينها دورة للمياه.
الفراش الأمي يحصي الحضور في الصباح الباكر، ثم يخبر المدير بأسماء المتغيبين، والذي يكلفه بالطواف على بيوتهم ممتطيا ظهر حماره، للاستقصاء عن أسباب تغيبهم، فإن كان ذلك بسبب مرض، تمنى لهم الصحة وتركهم، وإن كانت بأسباب اشتغالهم مع أهاليهم في الرعي، أو الحرث، أو السقاية، أو في مناسبة عائلية سحبهم من آذانهم غير عابئ بعويلهم، حتى يلحقوا بالدرس بعد المرور على فلكة المدير.
الأهالي لم يكونوا يغضبون من ذلك، فلهم العظم، وللمدير اللحم، كما اتفقوا معه منذ البدايات.
المدرس متعدد المواهب لم يكن يتكاسل عن تدريس اللغة والقراءة، والحساب، وشيء من الألعاب، ولكنه يترك درس القرآن لحضرة المدير، الذي لا يحلو له أن يعطيهم حصته إلا بعد صلاة الظهر، وكم يكون هذا متأخرا على الطلبة، قياسا بالمدارس القليلة الأخرى.
الطالب المستور كان يحضر للمدرسة، وهو يمتشق فوق كتفه المخلاة، حاملا فيها لوح الكتابة والفحمة، وقد يتهيأ له أن يدس معهما قطعة من خبز الميفا، وربما يتقاسمها مع أعز زملائه.
أما المتنعم منهم، فإنه يحضر من بيته وهو يحمل وعاء عريكة أو سويقة يخص بها المعلم، وقد يدعو بعض زملائه لتناولها.
المحظوظ يلبس حذاء، وربما يأتي محمولا على ظهر حمار، والمنكود يأتي بأقدام حافية دامية من الشوك.
الفصل لا يزيد عن غرفة ذات نافذة صغيرة، تهب بالصقيع في الشتاء، ويتوسطها بساط خوص أو حنبل يتجمع الطلبة فوقه في وضعية تسمح لهم بمتابعة حركة طبشورة المدرس، وهي ترسم لهم أحلامهم على اللوح الأسود.
لم يكن للطلبة سوى يوم الجمعة فرصة يرتاحون فيه من مشوار المدرسة، ولو أنهم لو حدث وشاهدوا أحد العاملين بالمدرسة زائرا لأحد بيوت قريتهم، تركوا ما بين أيديهم من ألعاب، واختفوا عن هيبة وجوده.
وتوشك السنة الدراسية على الانتهاء، ويتم عمل احتفال صغير، قد يحضره بعض أهل القرية، فيقوم فيه الطالب النجيب بقراءة آيات من القرآن، ثم يتلوه جهوري الصوت بقصيدة فصيحة عصماء، وربما يقوم طالبان أو أكثر بتمثيل حوار تم تحفيظهم إياه، ثم ينقلبون إلى أهاليهم إما ناجح، وإما موعود بالعودة للدور الثاني.
وقد كان بعض الطلبة لا يقفون عند السنوات، حين تكون نباهتهم مرتفعة، فيقفزون حواجزها، حتى يعودوا بسن مبكرة، للتدريس في قراهم.
وبالمناسبة، فقد كان مستوى الدراسة، رغم كل تلك الظروف متميز، ويؤدي الغرض منه، فيصبح الطلبة مدرسين، وموظفين، ومدراء، وضباطا في الجيش والأمن، بل إن البعض منهم كان يحظى بالابتعاث إلى الخارج، والعودة بشهادات عليا.
حكايتي هذه أنقلها لكم عن لسان من عاصر ذلك الزمان، وأطرحها هدية لمعالي وزير التعليم، ولبعض مدرسين يؤدون مهنتهم تكاسلا، ولطلبة مدللين، مبدعين في تحطيم خطوات مستقبلهم.
[email protected]