سليمان الضحيان

سترة الكعبة عبر التاريخ الإسلامي

الأربعاء - 14 سبتمبر 2016

Wed - 14 Sep 2016

في هذه الأيام العطرة بمشاعر الحج، والعبقة بروحانية دعوات الجموع في ربوع منى وعرفة يحسن أن ندع الحديث عن قضايا الفكر والسياسة، وإشكالات الواقع، وندلف إلى التاريخ بخشوع ليروي لنا حديثا عن الكعبة المشرفة، فإن أعظم المشاهد التي تأخذ بلب من يرى المسجد الحرام أول مرة رؤية الكعبة المشرفة شامخة بجلالها وبهائها بثوبها الأسود وحزامها الذهبي، وليكن حديث التاريخ عن هذا الثوب الأسود البهي الذي يستر الكعبة، فالتاريخ يحدثنا أنه لم يثبت على اللون الأسود إلا منذ القرن السابع الهجري، أما قبل ذلك فكان يتغير، وثمة أقوال للمؤرخين وشهادات ممن وقفوا على الكعبة بأنفسهم تشهد بذلك، فمن تلك المشاهدات في بداية الإسلام وقبل الهجرة قول النوار بنت مالك أم زيد بن ثابت: «رأيت قبل أن ألد زيدا على الكعبة مطارف خز أخضر، وأصفر، وكرار، وأكسية من أكسية الأعراب وشقاق شعر»، وقال عمر بن الحكم السلمي: «نذرت أمي بدنة والنبي يومئذ بمكة لم يهاجر، وجاء في حديثه: «فنظرت إلى البيت يومئذ وعليه كسى شتى من وصائل (ثياب حمر مخططة) وأنطاع (جلود)، وكرار، وخز، ونمارق عراقية، كل هذا قد رأيته عليه»، وإنما كانت عليه كل ذلك لأن بعض الأغنياء يهدون للكعبة أكسية تغطي بعضا منها، فيوضع عليها أكثر من كساء، ثم بعد فتح مكة كساها رسول الله صلى الله عليه وسلم الثياب اليمانية (وهي ثياب مخططة بيضاء وحمراء)، وكساها أبوبكر وعمر وعثمان الثياب اليمانية والقباطي (وهي الثياب البيضاء الرقيقة)، ثم كساها ابن الزبير في سنة 64هـ بالديباج الأحمر، وفي أيام الخلافة العباسية كسيت باللون الأبيض قال الفاكهي (ت 272هـ): «رأيت كسوة لهارون الرشيد من قباطي مصر (أبيض رقيق) مكتوب عليها (بسم الله بركة من الله للخليفة الرشيد عبدالله هارون أمير المؤمنين -أكرمه الله- مما أمر به الفضل بن الربيع أن يعمل في طراز تونة سنة تسعين ومائة»، وفي سنة 200هـ قدم مكة حسين بن حسن الأفطسي الطالبي، وملكها، وكسا الكعبة ثوبين رقيقين من حرير أحدهما أصفر، والآخر أبيض، ثم في عهد المأمون سنة 206هـ صار يكسوها ثلاث مرات في السنة، فيكسوها الديباج الأحمر يوم التروية، والقباطي (أبيض رقيق) يوم هلال رجب، والديباج الأبيض يوم سبع وعشرين من رمضان، ولما تملك الفاطميون مكة ثبتوا الكسوة البيضاء إلا أنه في سنة 456هـ بعث ملك شاه سلطان السلاجقة كسوة لها وهي ديباج أصفر، ثم استمرت كسوة الفاطميين البيضاء مدة حكمهم للحجاز، وفي خلافة الفاطميين حج الداعي الإسماعيلي ناصر خسروا سنة 442هـ ووصف كسوة الكعبة في كتابه (سفر نامة) بقوله: «والكسوة التي تغطى بها الكعبة بيضاء، وقد طرزت في موضعين عرض كل منهما ذراع، وبينهما عشر أذرع تقريبا، ومن فوقهما وتحتهما عشر أذرع أيضا بحيث ينقسم ارتفاع الكعبة إلى ثلاثة أقسام كل منها عشر أذرع بواسطة طراري الكسوة»، وبعد سقوط الدولة الفاطمية كساها الخلفاء العباسيون الديباج الأبيض، وغير الخليفة الناصر قبل سنة 614هـ لون الكسوة إلى اللون الأخضر، حيث كساها أول حكمه بالديباج الأخضر، وقد شاهدها مكسوة بالحرير الأخضر ابن جبير في رحلته سنة 614هـ، ثم غيَر الخليفة الناصر (ت622هـ) كسوتها إلى الديباج الأسود، وهو شعار العباسيين، وقد ثبت لونها الأسود منذ ذلك الحين إلى اليوم، وقد شاهدها الرحالة الذين زاروا مكة في القرون التي تلت القرن السابع بهذا اللون كالرحالة ابن بطوطة سنة 728هـ، وفارتيما الإيطالي سنة 912هـ، والعياشي سنة 1059هـ، والمرة الوحيدة التي تغير لونها في هذه المدة الأخيرة كانت في عهد الإمام سعود بن عبدالعزيز من أئمة الدولة السعودية الأولى فقد كساها سنة 1221هـ الخز الأحمر، ثم عاد إلى كسوتها باللون الأسود.