شاهر النهاري

قبل قرن حج جدي

الأربعاء - 07 سبتمبر 2016

Wed - 07 Sep 2016

لم يكن التعليم متيسرا في حينها، ولا المعلومة حاضرة كما في عصرنا، ولم تكن الظروف والوسائل والدروب والأمن والأمان متوفرة في زمن هيمنة الدولة العثمانية على المشهد.



ويحكي لنا جدي لأمي سعيد بن مريع، رحمه الله، عن مغامرة العمر بالنسبة له ولعصبة شباب حزموا أمرهم وعزمهم، وامتشقوا جنابيهم وعصيهم، وتوكلوا على عون ربهم، وتبعوا طموحات أعمارهم، لأداء فريضة الحج متحدين كل العقبات.



كانت قريتهم (الشِينة)، المنتصبة فوق قمم الجبال الشم المحيطة ببلدة أبها، مركزا لانطلاقتهم بعد التزود ببعض المتوفر من متاع وحبوب ودقيق، وسمن، ولحم (قديد)، وتمور بيشة، وبعض الثمار المجففة.



وكانت وسيلتهم أقدامهم الحافية، بعزم روح الجبال، وشجاعتها وطول أنفاسها.



المسار للبيت العتيق طويل متعرج متعسر، واجتيازه يحتاج ثلاثة أشهر تقل بالنشاط، وتوفر الزوادة، والسلامة.



جروف ووديان وصحارى وأشواك، وطقوس متقلبة، وعقبات وهوام وحيات وعفاريت، وقطاع طرق، وسباع متحفزة يتقونها بالنار، وحرز الكهوف.



المرض كان يتحداهم، بشربة عكرة، أو ثمرة فاسدة، أو ضربة شمس أو لفحة برد، فيحملون من يتوعك منهم على أكتافهم بالتناوب.



وتتعاقب خطواتهم نحو مجهول ينتظرهم، والأمل يحدوهم لرؤية بيت الله الحرام، الذي يسمعون به في حكايات العائدين من زيارته.



أسابيع تصرمها الخطوات، والمسار يتغير بالنجم والشمس، ومؤانسة الحصون، وتساهيل الدروب، والزوادة تنقضي، فيصبح العمل بالأجر في بعض القرى غاية، يؤازرها اقتناص أي مخلوقات حية، ولو كان جناح جرادة.



وتدنو خطواتهم من وادي مكة، متتبعين نادر قوافل الحجيج، ومستأنسين بنارهم، وقد يساعدونهم في قيادة دوابهم، أو حمل متاعهم، فيجدون معهم لقمة أو شربة.



يدخلون بعد الفجر إلى جوار الحرم المكي، متخبطين بين الحقيقة والحلم، وبأدمع تجري بمشاعر روحانية عظيمة، تطوف بهم على الكعبة، والحطيم، والمقام، والملتزم، والمسعى؛ مشاعر نسوا معها جوعهم وعطشهم، فينغمسون في تأدية الفروض والسنن والتبرك والدعاء لساعات طوال.



ثم ينتشرون بعدها للحوانيت الملتصقة بالبيت الحرام، غير مصدقين ما يرونه بأعينهم.



(40 نارة) تركية كانت حصيلة أعمارهم يشترون بها بعض متطلبات إتمام مشاعر عرفات ومزدلفة، ومنى ورمي الجمرات، وبقية الشعائر الربانية، فكانوا يجتهدون، ويسألون، عن كل خطوة فلا يزلون.



حج وقضاء حوائج بعرق جبينهم، وقلوبهم وألسنتهم تلهج بالدعاء ليتقبل رب البيت.



وينتهي الموسم، وهم لا يكادون ينتهون، فيودعون البيت العتيق، حاملين معهم ما يعينهم على سفرهم، وبعض حوائج لأحبة لهم في قريتهم.



وكانت دوافعهم في طريق عودتهم مشاعر حنين وغربة، وخبرة وتبصر، وقدرة على اختصار المسافات، وتخط للعقبات بحكمة.



ويدخلون قريتهم عصرا باحتفالية أناشيد ورقص بسلامتهم، قبل أن تحيي حكاياتهم سمر لياليهم، وتصبح خبراتهم دعائم معرفة وعزم لمن ينوي الحج مستقبلا.



رحمك الله يا جدي وصحبك الكرام، فكم أتذكر حكايات حجك ومغامراتك المفعمة بالخيال كلما اقترب موسم حج جديد، وكم أعتصر مخيلتي لمقاربة الصور، وعقد المقارنات، التاريخية والمكانية والثقافية، ولساني مستمر بحمد الله على ما ننعم به في يومنا من يسر وقرب، وكم أدعو من القلب بأن يديم على وطني وشعبي وحكومتي الأمن والأمان، وأترحم على كل من حج، في تلك العهود القديمة، سواء أكمل حجته، أو هلك شهيدا دونها.



[email protected]