أشجان الشامية

أسى كبير يُخيِّم على محيا المكاويين حين تلامس أبدانهم ذاكرة المكان الذي بات غريبا عليهم، فهل باتوا هم غريبين عنه أيضا؟

أسى كبير يُخيِّم على محيا المكاويين حين تلامس أبدانهم ذاكرة المكان الذي بات غريبا عليهم، فهل باتوا هم غريبين عنه أيضا؟

الاثنين - 13 يناير 2014

Mon - 13 Jan 2014



أسى كبير يُخيِّم على محيا المكاويين حين تلامس أبدانهم ذاكرة المكان الذي بات غريبا عليهم، فهل باتوا هم غريبين عنه أيضا؟

حين أكرمني الدكتور عثمان الصيني بشرف الكتابة في صحيفة مكة المكرمة، لم أجد أفضل من كتاب حبيبنا الأديب الحجازي الدكتور عاصم حمدان «أشجان الشامية: صور أدبية لمكة المكرمة في العصر الحديث»، ليكون مبتدأ حديثي المكتوب مع قراء هذه الصحيفة الغراء.. ذلك أن الكتاب على صغر حجمه قد حوى فنونا عديدة، وتشرَّفت أوراقه بذكر كثير من الشخصيات المكية الأصيلة، التي شكلت إلى زمن قريب مضى جانبا واسعا من ملامح المجتمع المكي على الصعيد الاجتماعي والثقافي بوجه عام.

على أن قيمة الكتاب لا تتوقف عند ذلك، فكاتبه وهو الدكتور عاصم قد نفث كل عصارة حُبِّه لتلك البقاع والدروب التي تلمَّس بين أضلعها دفئا كبيرا، واستشعر بين جوانحها حنانا واسعا، وكيف وقد رحبت أصقاعها بأولئك النفر الذين هذَّبهم الجوار، وزيَّنت شخصياتهم الرحمات التي تترى مع كل دعوة وكل بَصيرة هامت في السماء، فكانوا مثلا يُحتذى للشهامة والمروءة وطيب النفس والأخلاق الكريمة.

تلك هي بعض صفات القوم الذين عاش بين ظهرانيهم حبيبنا المديني الدكتور عاصم، الذي هاجر من مدينته طيبة الطيبة (على ساكنها وآله أفضل الصلوات والتسليم) إلى مكة المكرمة طلبا للعلم، فكان أن ازداد بمشيئة الله ورحمته نورا على نور، وثقافة على ثقافة، ونعمت روحه وذهنه بهدوء سمت عقلي فوق ما اكتسبه في مدينة المصطفى من هدوء سمت وجداني، فكان أن تفوق على عدد من أقرانه بجمعه الحُسنيين، فطوبى له ذلك.

أعود إلى كتاب «أشجان الشامية» لأدخل منه إلى عوالم مكة التي اختفت ملامحها جراء أسباب عديدة، منها ما هو متعلق بأمر التوسعة المباركة، وهو أمر ليس لأحد التوقف عنده، فمصلحة الطائفين والعاكفين والركع السجود فوق كل اعتبار؛ ومنها ما له علاقة بزيادة نمط العمران الحديث، الذي للعديد من المهتمين بالأثر التاريخي وبالحفاظ على الوجود المكي الأصيل رأي فيه، حيث أدى ذلك إلى غياب معالم المدينة العتيقة، بل والأخطر أن عددا من جبال مكة وشعابها التي مثلت منذ القدم وإلى وقت قريب معالم رئيسة للمدينة قد بدأت في التلاشي والزوال، وهو ما سيكون له أثره السلبي في قابل العقود والسنين، إذ سيكون ذلك مدعاة مستقبلا ـ وفي ظل ما يعيشه أبناؤنا اليوم من جهل مطبق بسيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)ـ لأن يخرج أحد الصهاينة ومن تابعهم ليُشكك في موقع مكة مستقبلا، مُحتجا بانعدام وجود المعالم الجغرافية الرئيسة التي حددت المكان عبر التاريخ، ومُستغلا اختفاء تلك الأوتاد النورانية التي توالى ذكرها في مختلف الكتب الجغرافية والرحلات المختلفة. وفي حينه ترى كيف سيكون جواب أبنائنا التائهين حالا ومعرفة؟

على أني لا أقول ذلك من فراغ فكري عملي، إذ الشواهد باتت ظاهرة لمثل هذا النمط من التفكير، حيث دأب اليوم بعض هواة قراءة التاريخ في تبني مقولات لا ترقى أدلتها للمناقشة العلمية والمنطقية، تفيد بأن موقع بني إسرائيل الرئيسي ليس في فلسطين التي يحتلها اليهود ويُنكلون بأبنائها، ويَستحيون نساءها، ويستلبون تاريخها وحاضرها ومستقبلها، وإنما في الجنوب الغربي من شبه الجزيرة العربية حيث جبال عسير وامتداداتها شمالا وجنوبا. وعبثا تحاول أن تلفت نظرهم إلى موقف اليهود أنفسهم المتجاهل رفضا لذات الفكرة من أصلها.

لقد حافظ المكيون منذ اللحظة التي التأم فيها أهلها حول الكعبة المشرفة على عهد قصي بن كلاب على خصوصية المكان، الذي ما تعظـَّم وتشرَّف وتكرَّم إلا بالكعبة المشرفة والحرم الطاهر، فكانت الكعبة مقياس عظمتهم، وكان الحرم مدار حركتهم وساحة ترحيبهم، فالأفئدة ضيوف الرحمن، وهم خدمها. تلك هي القاعدة التي تربى عليها المكيون عبر العصور، والسؤال: هل بقيَ لها أثر اليوم؟ أين ذهب أولئك وأبناؤهم الذين نفث عاصم حمدان في كتابه شيئا من مكارمهم؟ كيف سمح أولئك لأن تتلاشى معالم تلك القيم من بين أيديهم؟ وكيف تستعيد مكة وجوارها أريج تلك الصفات والهالات العظيمة؟

إنها أسئلة كبيرة صغيرة، غير أنها تمثل قيمة هامة في نفس جيلي وجيل من قبلي، وتفرض عليه التفكير في جوانبها بإلحاح، ولاسيما أن أسى كبيرا يُخيِّم على محياهم حين تلامس أبدانهم ذاكرة المكان الذي بات غريبا عليهم، فهل باتوا هم غريبين عنه أيضا؟

إيه يا مكة، كيف أنساك وقد كنت سكنا لبعض طفولتي وريعان شبابي، حين أطللتُ من جيادك على النور، فاستشعرت عظمة المكان، وقيمة الإنسان، وسماحة الإسلام، فطوبى لمن سكنك ومن حظي بجوارك.



[email protected]