علي مطير

عمر.. «ألم … ضوا … حي»

السبت - 20 ديسمبر 2025

Sat - 20 Dec 2025

في المبنى القديم للشركة السعودية للأبحاث والنشر، كانت أول مصافحة «صحيفة» مع الرجل الذي كان لتوه تسنم مهام مسؤول تحرير مكتب الشرق الأوسط في جدة. كنت على موعد صباحي باكر لمقابلة المضواحي.. ليلتها لم أنم وقررت حجز غرفة متواضعة في فندق قريب من مبنى الصحيفة كي لا أفوت الموعد/ الحلم بأن أصبح واحدا من فريق صحيفة العرب الدولية «الشرق الأوسط».

على طريقة الفنان محمد عبده «قبل الوعد جيت بدقايق» وفي الموعد تماما، خرج المضواحي من مكتبه، وأخذني بيدي في ممر طويل، وبدأ يتحدث لي عن «الشرق الأوسط»، الأسلوب، الصياغة، السياسة التحريرية، ثم منحني مكتبا فوريا، «وكوب شاي»، وتكليفا بكتابة قصة خبرية خلال ساعتين، ورسالة واضحة بنبرة حادة: «لا يهمني من شفع لك لمقابلتي، ولا ماذا كتبت في صحيفة أخرى قبل مجيئك.. الميدان يا حميدان».. قالها وأغلق باب مكتبه، لكنه فتح لي بعد الله باب فرصة صحفية، ومستقبل، وحياة مهنية حافلة.

كان ذلك اللقاء في منتصف العام 2004، لكنه لقاء ظل مطبوعا في ذاكرتي حتى آخر لقاء قبل رحيل المضواحي بأسبوع في ديسمبر من العام 2015.. ليلتها ذكرته باللقاء الأول، وكيف كنت أعتقد أنه اليوم الأول والأخير لي معهم.. لقاء طبع أمامي صورة المضواحي عمر، بأن له من اسمه الكثير.. حقا كان عمر «فاروق الصحافة» في زمانه، وهذا وصف راج كثيرا في تأبينه بعد رحيله رحمة الله عليه، لكن، القصة التي تشكلت مع السنين كانت في اسم «المضواحي» الذي لو تم تجزئته لرأينا كيف شكل اسمه ملامح شخصيته الجادة، وأسلوبه في قيادة صالة التحرير، وطريقته في الكتابة الصحافية طوال عقود من مسيرته المهنية الحافلة بالحبر والصبر..

«ألم ... ضوا ... حي».. ألم، فلم يكن مشوار عمر مفروشا لابالورود ولا الوعود، بل رحلة مهنية شاقة نحتت تجربته التي عاشها وأورثها لجيل من الصحافيين والصحافيات، لن أنسى وهو يقول بصوت عال، في صالة التحرير: «أطلبوا الدنيا بعزة نفس فإن الأرزاق تجري بمقادير» يذكرنا بأن رسالتنا المهنية، مسألة لا تقبل القسمة، ولا ترضى بالضرب من تحت الحزام، ولاتطرح التفاهة على موائد المجتمع، ولاتجمع بين الحقيقة والزيف في إناء واحد.

الألم في حياة عمر بعد ذلك تحول إلى ألم على حال الصحافة التي بدأت مع ظهور موجات جديدة من وسائل التواصل الاجتماعي، تواجه تحديات كبيرة على مستوى المهنية والموثوقية والصرامة التي رآها عمر جوهر الصحافة وسرها العميق.

نعم «ضوا» عمر، بشمعدان نصائحه وتوجيهاته وكتاباته، طريق كثير من بدايات الصحافيين ممن تتلمذوا على يديه، ومن تعلموا عن «بعد حبره»، ولست إلا واحدا من طابور طويل من الأسماء كلما أضاعت بوصلة الرؤية الصحافية، كان عمر بأسلوبه الصحفي النادر البوصلة والضوء والمحبرة.

مرت 10 أعوام عن ذلك النهار الحزين من ديسمبر، حين غادر عمر الحياة، وصلي عليه في المسجد الحرام، المكان الذي شهد تفاصيل كثيرة من حياته مثل جيل من رفاقه في مكة المكرمة، كان الحرم فيه مكانا للعبادة، والمذاكرة اليومية، والعمل التطوعي.. مرت الأعوام العشرة عمر لايزال «حي» في قلوب محبيه، وحاضرا في أبجديات الصحافة، في نواميس الأحاديث والتداعيات، في تناهيد الرفاق، وآهات الورق.. في ذاكرة الفقد.. أي والله، الفقد.