جدلية الذات والمعيار: لماذا لا يمكن للإنسان أن يكون معيارا لنفسه؟
الأحد - 16 مارس 2025
Sun - 16 Mar 2025
حينما ننظر إلى مسيرة الفكر الإنساني، نجد أن الحضارات الكبرى لم تتأسس على القوانين والتكنولوجيا فقط، بل قامت على منظومات فكرية تحدد معايير الحق والخطأ، وتوجه القرارات المصيرية وفق بوصلة أخلاقية ومعرفية راسخة. ومن هنا برزت إشكالية «الذات والمعيار» بوصفها إحدى أهم الجدليات الفلسفية: هل الإنسان قادر على تشكيل معاييره الخاصة دون الحاجة إلى نموذج خارجي، أم أن كل منظومة فكرية تحتاج إلى مرجعية متجاوزة تضبط مسارها؟
مع تسارع التحولات الثقافية والمعرفية في عصر ما بعد الحداثة، برز اتجاه جديد يدعو إلى التحرر الكامل من أي سلطة معيارية خارجية، مما جعل الإنسان في مواجهة سؤال جوهري «هل يمكن للذات أن تكون معيارا لنفسها، أم أن الحاجة إلى (أسوة حسنة) تبقى ضرورة فكرية وأخلاقية لا غنى عنها؟». «الأسوة الحسنة»: النموذج المعياري مقابل الفردانية المطلقة، في هذا السياق تقدم الآية الكريمة ﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا﴾ [الأحزاب: 21] طرحا مختلفا عن النزعات الفردانية الحديثة، حيث تؤسس لرؤية تجعل من الاقتداء بالنبي ﷺ نموذجا معياريا يتجاوز حدود الفردانية المطلقة. فإذا كانت الفلسفات الحديثة تدعو إلى استقلال الذات وتحررها من كل سلطة معرفية، فإن القرآن يعيد توجيه الإنسان نحو نموذج معياري محكم، ليس بوصفه إلغاء للذات، بل بوصفه ضبطا لمسارها حتى لا تقع في الفوضى المعرفية والأخلاقية.
انقسمت الفلسفات الحداثية في مقاربة هذه الإشكالية إلى اتجاهين رئيسيين:
1- الاتجاه الفرداني: وهو الذي يرى أن الإنسان يجب أن يكون المرجع الوحيد لنفسه، كما في فلسفة كانط التي جعلت العقل الذاتي هو الحكم النهائي، والوجودية التي أكدت أن القيم تخلق من التجربة الشخصية لا من أي سلطة خارجية.
2- الاتجاه الموضوعي: وهو الذي يرى أن المعرفة والأخلاق لا يمكن أن تكون نتاجا فرديا، بل تحتاج إلى «مرجعية معرفية متجاوزة» تحفظ اتساقها واستمراريتها. لكن هذه الجدلية تطرح سؤالا أكثر عمقا «إذا كان كل فرد هو معيار لنفسه، فما الذي يمنع التناقض المطلق بين المعايير؟» إن الاعتقاد بأن الإنسان قادر على تشكيل منظومة قيمية مستقلة تماما «يؤدي إلى انهيار أي إمكانية لوجود معيار ثابت، مما يفتح الباب أمام النسبية المطلقة»، وهو ما يهدد بنية المجتمعات قبل أن يهدد الأفراد أنفسهم. «النتيجة: هل يمكن للإنسان أن يكون معيارا لنفسه؟» إن ما يحاول هذا الفكر أو التوجه إنكاره هو أن الإنسان، في نهاية الأمر، لا يستطيع أن يكون معيارا لنفسه، لأن كل معرفة تحتاج إلى أساس، وكل فكر يحتاج إلى إطار مرجعي يضبطه. وبدلا من ترك الإنسان تائها بين معايير متغيرة، يقدم الإسلام «الأسوة الحسنة» كنموذج معياري يحقق التوازن بين استقلالية العقل وضرورة الهداية.
وإذا كانت الفلسفات الغربية قد دفعت الإنسان نحو «الاستقلالية المطلقة»، فإنها لم تقدم بديلا حقيقيا عن «المعيار»، مما جعل الحداثة تعيش حالة «قلق معرفي مستمر»، بحيث ترفض أي مرجعية، لكنها في الوقت ذاته تعجز عن تقديم نموذج معياري بديل. أما الإسلام، فقد حسم هذه الجدلية من خلال «ترسيخ نموذج النبي ﷺ كنقطة التقاء بين الذات والمعيار»، بحيث يجد الإنسان في «الأسوة الحسنة» «ليس قيدا على تفكيره، بل تحررا من عبء الفوضى المعرفية»، حيث يتحرك ضمن إطار يضمن له الاتساق والاستدامة في رحلته الفكرية والروحية.
وبهذا، يظل السؤال مفتوحا أمام دعاة الفردانية «إذا كان الإنسان لا يحتاج إلى نموذج معياري، فلماذا نجد أن كل فكر، حتى أكثرها تحررا، يستند إلى منظومة مرجعية؟» إن اقتفاء أثر «الأسوة الحسنة» ليس مجرد ممارسة دينية، بل «هو إعادة ضبط لمسار الإنسان حتى لا يتيه في دوامة الذاتية المطلقة، بل يظل مرتبطا بمعيار يضمن له الاستقامة الفكرية والأخلاقية في عالم يموج بالمتغيرات».