علي قطب

تبادل المواقع الفنية في مساحات أكابيلا السردية لمي التلمساني

الاثنين - 06 نوفمبر 2023

Mon - 06 Nov 2023

"عندما كانت تحدد موعدا ولا تأتي فيه لم أكن أبحث عنها، كانت هي تبحث عني"، هذه الجملة مفتاح رواية أكابيلا للكاتبة مي التلمساني. فالنص رواية مشتركة بين راوية تشغل مساحة أكبر في القص وشخصية تشغل مساحة أكبر في الفعل، ويتبادلان الموقعين، شخصية تعيش الحياة وتكتبها، تسعد وتشقى، تطلق مشاعرها وآلامها هي "عايدة" وشخصية أخرى تتابعها وتسايرها وتتخلى عنها ثم تبحث عن نفسها فيها هي شخصية "ماهي" التي تقوم بدور الساردة أو المنسقة للبنية الروائية، فهناك متلازمة الأنا الأخرى المعانقة للحياة والضحية في النهاية، تجاور الأنا العاقلة المتزنة بالمنطق الواقعي، التي تظل طوال الخطاب لنتلقاه بتنظيمها، فكأن عملية الكتابة إجراء تطبيقي لحوار الذات المنقسمة مع نفسها، تضحي فيه الذات الواعية بنصفها الانفعالي الذي يعد مسودة لكيانها المتسق في الخطاب السردي، فالثنائية الفاعلية لها دلالاتها المهمة في كشف انقسام الذات بالانعتاق من الحياة الصورية، ثم ذوبان تلك النسخة السادرة (الهائمة وفقا لمنطقها الخاص) في الشخصية الساردة، التي تجيد التعامل مع المنطق المحيط وفقا لمسلماته.
يمكن افتراض أن عايدة هي الشخصية الأكثر فاعلية وحرية من ماهي، وبالتالي فالشخصيات الروائية هي صور من شخصيات سجينة فينا، لكن الموضوع أبعد من ذلك، لأن تبادل الموقعين – مع احتفاظ عايدة بالكتابة الأولى وماهي بالاختيار والتنقيح بوصفها الضمير أو المحرر النصي – يعني أن الإدراك متبادل، بمعنى أن الموضوع السردي يحدد شخصيتي فاعل الخطاب وفاعل الدراما، يصنعهما، يظهر طريقتهما في فهم الدنيا، تصبح المشكلة ثنائية مترابطة هي كيف ترسم الشخصية للراوي طريقا لوجوده أو مساحة لتحقيق نفسه لفرض تصوراته، للتنفس في طريقة التعبير من ناحية، وكيف يرسم الراوي شخصياته التي نعيش معها نحن القراء من ناحية أخرى، أي أن الرواية ليست شخصية يحضرها الراوي فقط إنما هي الراوي الذي تحفزه الشخصية، لذلك فإن شخصية الراوي تعيش في الكتابة وفقا لما تمليه عليها أحيانا الشخصية التي يتحدث عنها، الشخصية التي تزوره أو تعوده، إذا استخدمنا اسم عايدة التي تمنح الراوية مساحة لاستعادة هويتها أو شخصيتها ، والراوية هي ماهي أي الماهية أو الذات.

لا يمكن اعتبار الرواية صورة للمؤلفة خارج النص، ذلك بعيد تماما، نحن أمام رواية مصنوعة بدقة عن شخصيتين علاقتهما معقدة، التشابه بينهما كبير وعميق والاختلاف أيضا،عايدة هي شخصية الراوية التي يجب أن تموت فيها، هي المؤلفة الحقيقية من الداخل إذا أخذنا تعبير بارت الشهير موت المؤلف، أما ماهي فهي الصوت الذي يردد حياتها بطرق متنوعة.
إن الكاتبة خارج النص تمد عناصر الحياة والحماية لعايدة وماهي بقدر ما فيهما من إنسانية وفنية معا، وبقدر ما فيهما من رمزية قادرة على لمس صور داكنة في المخيلة المجتمعية أو الفردية للقارئ، فالرواية نموذج فني مصغر لصناعة العمل، الشخصية تبدو في متناول الراوية وتنصرف عنها ويظهر منها جزء ويختفي معظمها وتتناوب الأجزاء في الظهور والراوية تحاول متابعتها، فالشخصية تستدرج الراوية وتحفزها للانشغال بها ومن ثم العمل معها، لإظهار شخصيتها واختبار إمكاناتها، فنجد أن النص الأساسي كشف عن نص آخر ضمني مثلما تكشف الشخصية عن الأخرى، فنص عايدة يحيلنا إلى لحظة وجود أساسية في حياة البطلتين، لحظة اكتمال، لحظة صناعة الذات من الأخرى.
يعد حضور الأحلام في رواية أكابيلا ملمحا مهما، فالحلم المتكرر بالوقوع في الحفرة نتيجة تحول البلاطات الأسمنتية إلى ممر من الحشائش يمثل مقارنة بين الحالة الطبيعية للمدنية والحياة والحالة الأولى مع الطبيعة نفسها، ثم استحضار مفهوم الموت، إنه خوف من الوأد النفسي، وخوف من السقوط في الحب الذي يؤدي إلى فقدان الإرادة، وفقدان الحب نفسه في العلاقة الاجتماعية، أما الإشارة إلى حبوب منع الأحلام، وهي تعبير استعاري عن فقدان الخصوبة الحدسية، خصوبة التحقق في اللاوعي، خصوبة إعادة إنتاج الذات خارج المنطق. فالحلم فن، وحبوب منع الأحلام هي الحياة العصرية الكيميائية التي تباعد بيننا وبين الفن، وتصبح الهوة التي تسقط فيها الراوية النائمة هي الرواية نفسها التي تصنعها بوصفها حلما والموت هو انتهاء الرواية، موت الشخصية وفعل التخيل معا، واتساع الحفرة في الأحلام هو ارتفاع درجة البوح في اللاوعي، وتصوير كوامن النفس كما لو كانت صورا نعايشها بالفعل، ويلتقي هذا مع انتهاء في لحظة درامية تجمع الشخصيتين في مشاهدة فيلم، وتأتي اليقظة بعد الفيلم وكأن الأضواء الهادئة الخافتة أخرجت من الشخصيتين أعلى درجات الكبت الشعوري.
إن أكابيلا رواية لصوت يردد لنا شيئا عميقا بداخلنا، ذاك الشيء الذي نظن أننا تخلصنا منه بوعينا وخبراتنا ونضجنا في حين أنه لصيق بإنسانيتنا التي تعيش معنا منذ الطفولة وتتمنى أن نحنو عليها لا أن نتخلى عنها.