علي قطب

لعبة القص والألم في مجموعة ترددات لمينا ناجي

الاثنين - 31 يوليو 2023

Mon - 31 Jul 2023

يدخل مينا ناجي مجموعته القصصية ترددات من منظور يلتقط دقائق الحياة اليومية والمواقف المعتادة التي يمكن أن تبدو عابرة ويقوم بتحليلها مستخلصا الضعف البشري الذي يصيب المتلقي بالألم حين يطالع الأزمات التي تعانيها الشخصيات بشكل متكرر يعبر عنه العنوان "ترددات"، فتلك الأشياء الصغيرة التي تحاصرنا في مساحة ضيقة مثل ملعب الاسكواش، ويثير صوتها في أعماقنا موجات من التذكر تكتسب قوة إضافية حينما نكررها في شكل حكايات، بمعنى أن تحويل الحادثة المعتادة إلى حدث كلامي هو مفتاح الدخول إلى منطقة الألم في الوعي البشري؛ لأنه يضع الإنسان أمام مسؤولية التعامل مع الكلمة وإحياء الماضي وإعادة قراءته، وهذا العملية تماثل إخراج شظايا من جروح قديمة، وإن كان هذا يعني تطهير الجراح البشرية بفعل القص.

هذا المستوى الأول الذي يقف بنا في مجموعة "ترددات" لمينا ناجي عند عملية التطهير النفسي يحقق وظيفة الفن القديمة التي حددها أرسطو لكن مينا يتجاوز هذا الألم الأولي إلى محاولة الفهم وهذا يتطلب حوارا بين أصحاب القصص المختلفة والبحث عن معنى لكل قصة ووضعه في كلمة مثلما تحتسب النقطة في الألعاب، يظهر هذا واضحا في قصة سير ذاتية وهي في صيغة الجمع التي تستحضر مجموعة من الشخصيات تقوم بقص أحوالها وآلامها وخبراتها ويتطلب من المتلقي وضع كلمة بعينها لكل خبرة، فكأننا في لعبة نضع العناوين في بطاقات مناسبة لكل حالة، لذلك تنتهي قصص الألم بالسعادة حينما يفوز المتلقي بمعرفة، وفي قصة مصالحة خاسر جيد تتخذ صيغة الاعتراف تحولا يستقر في شكل خطاب مونولوجي يتصل بمرجعية الكورونا التي انتشرت في السنوات السابقة ودفعت الناس لمعايشة حالة البوح تحت وطأة الاختناق.

وفي لعبة التواصل والانقطاع يعبر مينا ناجي عن المعرفة والقوة في قصة الأسطى والصبي، حيث تتبادل الشخصيات عملية الهيمنة بالحوار فتبدو الشخصية الأكثر ضعفا أكثر قوة بإصرارها على استمرار الحوار وتحقيق أهدافها مع انسحاب الشخصية الأخرى، فمن يتمسك باستمرار النقاش مدركا أن اللغة تعبر عن الوجود وأن وجود الإنسان يحققه بنفسه وليس مرهونا بالآخر هو الذي يتحدث ويمتلك القصة، بمعنى أن الحضور في القصة هو نوع من الوجود الحقيقي للشخصية.

تستمر لعبة التواصل والانقطاع في قصة "ليست فتاة صغيرة"، حيث تقوم تلك الفتاة الصغيرة بتصدير الألم لشخصية الرجل وتستطيع أن تنتزع المكسب بالمراوغة وتسخير الآخرين من أجلها حتى يظن أنه اقترب من هدفه وهو الارتباط بها لتعلن له في النهاية أن ارتباطه سيكون وبالا عليه، فالقوة لا ترتبط بالسن ولا بالنوع، إنما بالقدرة على أن تكون لك حكاية أقوى من حكاية الآخر فتجعل قصته باهتة وتتكسب بطريقتك في عرض قصتك.

وفي قصة "حنان" تخسر الشخصية وهي تظن أنها تبث في الشخصية الأخرى روح الأمومة لتتكسب من حنان تلك الأم الوهمية وفي النهاية تتركها متمثلة دور الأم وتنسحب من اللعبة تاركة الشخصية الأخرى في مواجهة مع النفس ومواجهة مع جيله.

وفي قصة موعد ليلي يستخدم مينا ثنائية المذكر والمؤنث (هو وهي) داخل إطار الليالي وهو يذكرنا بشهريار وشهرزاد، وفي الوقت نفسه بالليل والنهار أو الظلام والنور، ويبدو الليل كانعكاس لحياة النهار أي أنه نوع من التردد الجديد الذي تتجلى فيه أزمة الوجود من ناحية والذي يطمس الحدث من ناحية أخرى مما يجعل القصة تنتهي بقتل المؤنث للمذكر، وهو قتل معنوي لاستحواذ شهرزاد الليلة على شهريار النهاري.

تتسم المجموعة بالتجريد والمحاورة الذهنية والتحليل النفسي لثنائية الألم واللذة، بالإضافة إلى محاولة فهم الروح الجمعية في التعامل مع معطيات الحياة، وتظل "ترددات" مينا ناجي ضاربة في وعي المتلقي بعد القراءة محاولا فهم لعبة القص ودورها في تفسير العالم.