خالد العويجان

الخرائط «الملعونة»

الأربعاء - 24 مايو 2023

Wed - 24 May 2023

الساعة تشير إلى ما لا نهاية، العقارب تتلاحق، هذا يتبع ذاك، وذاك يريد النيل من هذا، ساعة من؟ لا أعلم، المهم أن الحياة، تفترض لحاقهما، واتباعهما. وهذا ما جبلنا عليه. متابعة العقارب، والعيش على إملاءاتها.

والنظر إليها، كمن ينظر إلى الحدود المرسومة على ورق. والحدود شيء، والخرائط شيء آخر. الأولى على افتراض أنها قد تكون عرضة لأمر ما، يمكن أن يغيرها، لذا يجب الاستماتة في حمايتها. والثانية، لها علاقة برسام حددها، ومضى. وكلتا الحالتين، بحاجة إلى حائك من طراز رفيع، للحفاظ عليهما، وربما مقاتل.

المهم أن يمتلك القدرة على عدم زعزعتها، على الأرض، أو الورق، لأن الخرائط بطبعها تكره الاقتراب منها قيد أنملة، كونها تعيش على «الملليمترات».

ذهب ميخائيل غورباتشوف، ضحية سذاجته، ووقع في فخ الأوروبيين. قال له الناتو ذات يوم، إنه لن يتوسع ويقترب من الحدود الروسية. أخذ الرجل الأمر بحسن نية، ولم يطلب ضمانات. لكنه وقع في شراك الحيلة الأوروبية، التي سلكت الطريق نحو الشرق واقتربت لحدود بلاده، وتسببت في تفكك إرث الإمبراطور بطرس الأكبر.

كان حينها فلاديمير بوتين يافعا، دمه ينبض بحيوية جهاز المخابرات. قُسّمت أرضه، وخرائطها في وضح النهار. غضب السوفييتيون وقتذاك وهو ضمنهم، لم يملكوا إلا الامتثال للأمر الواقع، ودخلوا التاريخ من جديد، من باب ذهاب إمبراطوريتهم للمرة الثانية على التوالي.

كان ذلك درسا عميقا لبوتين الذي نراه اليوم، ونافذة يطل خلالها يوميا على إرث أجداده. مع الوقت أخذ الأمر على محمل الجد، نظر في الخريطة، وأحس بجرح دام. قلب أوراقه، وفكر، ودبر، وقرر مواجهة الغرب «انفراديا». حين علم الرأي العام الروسي أن الرجل يفكر باستعادة ذلك الإرث المبدد، أيده بالمطلق، اعتبروه الوحيد الذي يستطيع إعادته، بعد أن ضاع في زحام العالم، وهو الذي قد يتمكن من معالجة أخطاء غورباتشوف.

استخدم بعضا من سحر الإمبراطورية، ووضعها أساسا للنضال الروسي، نبش في التاريخ، واستطاع استنباط شعارات، تحولت إلى قواعد وطنية، وأخذ على عاتقه استعادة القيمة المعنوية والاعتبارية لبلاده مهما كلف الأمر.

وعلى ذلك الأساس، رمى بكل ثقله في الأزمة السورية. وقبل ذلك، كان له موقف في أسواق النفط خلال رأيه في منظمة «أوبك.. وأوبك+». وكان ذو صوت عال في المحافل الدولية، ضد المفاهيم والسياسيات «الغربية».

وفي الوقت ذاته، فهم مبكرا من يستحق الوفاء والالتزام، رأى أن الرياض هي الحليف الأساس المستقر. نظر إلى المملكة ووجد أنها دولة ثابتة «رسميا وشعبيا». قرأ جيدا تفاصيل العقد الاجتماعي بين الدولة والشعب، ووضع هذا اعتباره وفي دفاتره. صحيح تقاطعت الرياض معه في سوريا، لكن الأيام كانت كفيلة بإزالة التقاطع، فثمة هناك ما هو أهم.

تبادل الجانبان الفائدة من التجارب الماضية، كيف؟. أعني أن السعودية استشرفت أن الماضي الروسي خلق تجربة خولت موسكو لأن تكون في محل الحليف، الذي يتمتع بحد كبير من المصداقية والأخلاقيات. وروسيا كذلك أخذت الفروسية السعودية بعين اعتبارها، ووضعت لها قيمة عليا، من الناحية السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية؛ وقبل ذلك الدينية.

والتوافق السعودي الروسي ليس وليد اللحظة، بل إنه تاريخي ويمكن قراءة ذلك من وضع الطرفين خلف ظهريهما شريحة كبرى من الرأي العام العربي، لطالما كانت ترى أن السعودية على الدوام، محل انتقاد، وكانت تصنف روسيا في أرذل قوائم الشيوعية والإلحاد.

ولمن يفهم التاريخ، سيدرك أن تلك الفئة التي أتحدث عنها هي نتاج تيار عروبي، استفاد كثيرا من الأسس السياسية الناصرية في مصر، وتغذى على إعلامه، إبان حقبة «إذاعة صوت العرب»، التي لم يكن لها إبان نشاطها وصيتها الذائع، إلا السعودية. وهذا يعود إلى أسباب كراهية جمال عبدالناصر للأنظمة الملكية، وذلك ليس مجال حديثي اليوم.

كتبت الأسبوع الماضي هنا عن لملمة المملكة للصف العربي، وكان ذلك قبل عقد «قمة جدة»، والآن انتهت القمة، وانصرف الجميع إلى حيث جاؤوا. ومن المفترض أن أتحدث عن نتائج القمة التي اكتسبت أهمية عن نظيراتها في التاريخ، لكنني رغبت طرق باب آخر.

ما أريد الوصول إليه؛ هو أن القصة الروسية ليست من حيث التاريخ ملهمة بقدر ما تخفي من جراح، إنما الإلهام يكمن في التفاصيل والأزقة التي سلكها وانتهجها الوريث، هذا من جانب.

ومن جانب آخر، أردت القول إن ما أقدمت عليه بلادي، بعيدا عن الهدف الذي تحدثت عنه في المقال الماضي، من حيث حملها زمام إعادة القيمة للمنطقة من الناحية الاستراتيجية. فالأمر الأكثر عمقا إذ يتمحور حول مشاركتها، في وضع أطر للنظام العالمي الجديد، بخرائطه وحدوده، ومكامن قواه، وكسر قاعدة الاستئثار بالقرار العالمي، وفق مفهوم «أحادية القطب»، الذي طالما استفادت منه أمريكا وأوروبا.

أعتقد أن واشنطن فهمت الرسالة، لذا قالت «كرد فعل» إنها تعارض أي شكل من أشكال «التطبيع» مع دمشق. ولمن يعي ويدرك سياسة واشنطن «المتذبذبة»، سيتفهم أن الهدف ليس النظام السوري، إنما ضمن محاولات عرقلة المشروع السعودي الكبير، الذي يأخذ باعتباره، ضرورة تغيير شكل النظام العالمي.

إن المنظومة العالمية القديمة؛ ثبت بالقول والعمل، بأن المرحلة قد تجاوزتها، ولم تعد صالحة لا للظروف الزمنية، ولا حتى للأجيال الحالية والقادمة، والأدلة كثر، ويمكن أخذ الهروب الأمريكي الكبير من أفغانستان مثالا على فشل ذلك النظام، الذي يقوم على التفرد في الصوت، والرأي، والقرار.

هذا ما يجب أن يدركه صقور السياسة في واشنطن وأوروبا. إن أرادوا ذلك. وإن لم يفهموا الدرس، فالأيام كفيلة بحرف بوصلتهم.

المهم أن العالم الجديد ماض في مشروعه، وسيتشكل دون أدنى شك، مهما بلغ حجم الرفض والمجابهة.

على الأقل.. لتتحول الخرائط بعد حياكتها، من «ملعونة» إلى «مباركة».