بندر الزهراني

اللغة العربية حالة حضارية متكاملة!

الثلاثاء - 24 يناير 2023

Tue - 24 Jan 2023

كنت قبل مدة قد شاركت بمحاضرة قصيرة تحت عنوان «الإحصاء الرياضي جذور وتكاملات» في مقر الهيئة العامة للإحصاء بالرياض، وحرصت في محاضرتي هذه على أن أتحدث بلغة عربية سليمة، وبعد نهاية المحاضرة استوقفتني مجموعة من الحاضرين كان من بينهم أحد الخبراء في جهة حكومية ما، قال لي وقد أحسن الظن بي: يا دكتور أنا سعيد جدا بما سمعته منك، ليس بمحتوى كلمتك العلمية فحسب، بل بمستوى اللغة العربية الجميلة التي استخدمتها، وتمنى أن أكثف من حضوري الإعلامي إثراء للغة العربية في المجالات العلمية البحتة.

والواقع أنني دائما ما أركز على دلالات الألفاظ في المصطلحات والمفاهيم العلمية أثناء محاضراتي الأكاديمية، وأستطرد كثيرا في الحديث عن جماليات اللغة العربية وثراء مفرداتها في احتواء العلوم الحديثة، وطلابي يعلمون ذلك جيدا، وأحسبهم يستمتعون بما أفعل ويستعذبون ما أقول، وأنا وإن كنت لم آت بجديد - فالزملاء من المبدعين في هذا المجال أكثر مني مهارة وتمكنا، وأكثر مني عناية باللغة العربية وحرصا عليها - إلا أنني مؤمن إيمانا راسخا أن اللغة العربية ليست مجرد وسيلة للتواصل العلمي بقدر ما هي حالة حضارية متكاملة تستحق العناية والاهتمام.

وبلا ريب أو أدنى شك سنجد أننا جميعا نتفق اتفاقا تاما مع محبي اللغة العربية في جمال مفرداتها، ودلالات ألفاظها، ورسوخ نصوصها، وجمالية حروفها الفنية وموسيقاها الغضة الندية، وفي المقابل قد نختلف اختلافا نسبيا مع بعض الزملاء من المهتمين باللسانيات ومحبي تحليل الخطابات ممن قد غربوا وشرقوا في دراسة اللغات الحية والمنقرضة سواء من نواح فلسفية أو خيالية، إلا أن اختلافنا معهم لا يعني استنقاص اللغات الأخرى خاصة لغات العلوم المادية، وجميعنا نقف منبهرين بالنص القرآني العظيم مبنى ولغة وخيالا، بجانب جمال النصوص العربية الشعرية والنثرية التي قد لا يضاهيها نصوص أدبية أخرى.

ونحن هنا لسنا بصدد عقد مقارنة بين اللغة العربية ولغات العالم، لأننا موقنون سلفا أن المقارنة بين اللغة العربية وغيرها من اللغات لا تستقيم منطقا وعقلا، وبحكم عاطفتنا المفرطة تجاه كل ما له صلة بلغة القرآن الكريم، تلك اللغة التي وسعته لفظا وغاية كما يقول حافظ إبراهيم، ولنا نحن في عاطفتنا هذه كل العذر، فاللغة التي تغلب النص القرآني على أربابها وفصحائها وعلى كل نصوصهم ومنتجاتهم الفكرية، وتحداهم بها لا يمكن إلا وأن تكون لغة عظيمة وإلا ما كانت مادة وغرضا للتحدي الإلهي!

اكتساب اللغة غريزة فطرية يولد المرء بها كما يقول نعوم تشومسكي، تنمو وتتطور بالمحيط الذي ينشأ فيه الإنسان، وهذا المنهج التحليلي السليم الذي يقوده تشومسكي لا يعارض أفضلية اللغة العربية على غيرها بقدر ما يعارض التيار اللساني التبعي الذي يحاول جاهدا إسقاط قصوره المعرفي واللغوي على لغة تعهد المولى جل في علاه بحفظها حفظه لكتابه وسيرة نبيه القرشي العربي عليه أفضل الصلاة والسلام.

المشكلة - من وجهة نظري - ليست في تفاضل اللغات فيما بينها البين أو تمايزها عن بعضها البعض، بل في تهافت التافهين نحو إلغاء الإرث اللغوي العربي، وجعل اللغة العربية لغة تابعة لأفكارهم السطحية وعقدهم المعرفية، فتصبح لغة هامشية لا قيمة لها علميا وتواصليا خاصة إذا ما أدخلت فيما يسمى بعولمة اللغة، فقصورهم التحليلي والمعرفي وقصورنا العلمي ليس قصورا في اللغة العربية، كما أن تفوق الغرب علميا وماديا لا يعني تفوق لغاتهم على لغات العالم.

وفي تصوري أن الانبهار بالحضارة الغربية ولغاتها وعلمائها البارزين، والاندفاع إليها هو سبب رئيسي ودافع أساسي لهجمات النقد السلبي التي تتعرض لها الحضارة الإسلامية وعلى وجه الخصوص اللغة العربية، ولو أن النقد السلبي هذا - قديما وحديثا - لم يكن سطحيا أو كان له معنى وقيمة أو جاء من شخصيات ضليعة في اللغة ولها اعتباراتها العلمية لربما أفردت مقالي هذا للحديث عنه بعمق وتأصيل وبشكل علمي متين، ولكن ولأنه من الكلام الفارغ على رأي زكي نجيب محمود فإن في إهماله وتجاوزه انتصار للعربية وللذائقة العامة وللحضارات الإنسانية عموما.

drbmaz@