القوة من النوع الثالث وهشام ناظر المفكر!
الأربعاء - 28 ديسمبر 2022
Wed - 28 Dec 2022
قرأت كثيرا - كما هو كل المهتمين - عن التحولات المتسارعة في عموم القيم الغربية السياسية والاجتماعية، وما حل بدول الغرب حول الشذوذ وما يسمى مساواة المثلية والجندر والنسوية، ومحاولات فرض هذه القيم الغربية المنافية للفطر السليمة، والمتناقضة مع الصحة العامة والخاصة، والمتعارضة مع جميع أخلاقيات الأديان السماوية وتشريعاتها، بل إن فرضها على دول العالم بقوة النوع الثالث يتنافى مع قيم الغرب وشعاراته المرفوعة حول حقوق الأمومة والمرأة والطفل! حيث تحول الانحراف الأخلاقي لدى الغرب من مظاهر انحراف سلوكي إلى محاولات جادة لإلزام الدول بأن تكون تشريعات عالمية يحميها النظام المحلي للدول، ويسندها القانون العالمي بمنظماته الأممية! كما هي المؤتمرات الدولية للسكان والتنمية في القاهرة ونيويورك، وآخرها في نيروبي عام 2019م، خاصة أنها زادت وتيرة الإلزام والقسرية في أزمنة حكم الديمقراطيين بالولايات المتحدة لا سيما في عهد الرئيس أوباما ومن بعده بايدن، وهو ما أخجل وأحرج أرباب الثقافة الغربية من العرب والمسلمين، حيث انكشاف بعض الشعارات الغربية وانحطاط بعضها الآخر.
والمهم هنا أن هذه التحولات ذكرتني بقراءة لي قديمة لكتاب مثير للانتباه ومفيد يحمل رؤية مستقبلية للسياسات الغربية كتبه مفكر سعودي حول مستقبل العالم مع الغرب فيما بعد مرحلة الاستعمار (الاحتلال) كما يسميها في كتابه! وكيف أن الغرب سيستخدم استعمارا جديدا للقرية العالمية كما عبر عنها مؤلف الكتاب المفكر السعودي معالي الوزير والسفير الأستاذ هشام ناظر - رحمه الله - الذي سمى هذا الاحتلال الحديث (القوة من النوع الثالث)، وهو كتاب يحمل رؤية مستقبلية عن الأخلاق السياسية الغربية، وما فيها من مخاطر على الهويات والقيم والثقافات والسياسات المحلية لبقية دول العالم! فما هو هذا الكتاب؟ ومن هو هذا المفكر؟ وما هي هذه القوة؟
كان صدور هذا الكتاب (القوة من النوع الثالث - محاولة الغرب استعمار القرية العالمية)، بطبعته العربية قبل أكثر من عشرين عاما، وهو مترجم من (الإنجليزية) اللغة الأم للكتاب، ترجمة الدكتور خالد محمد باطرفي، ونشر مؤسسة المدينة للصحافة والطباعة والنشر بالسعودية عام 1423هـ، والكتاب يتكون من خمسة فصول بالعناوين التالية: التغيير المقصود يصنع القوة من النوع الثالث، القوة من النوع الثالث وكيف تعمل، الاستخدامات الأولية للقوة من النوع الثالث، القوة من النوع الثالث مواصفات النجاح، القوة من النوع الثالث دور الدول النامية.
ويوصف المؤلف بأنه الوزير والسفير هشام محيي الدين ناظر الذي التحق بجامعة كاليفورنيا، وحصل على درجة البكالوريوس مع مرتبة الشرف في العلاقات الدولية عام 1957م، وعلى الماجستير في العلوم السياسة عام 1958م، وكان ناظر أول وزير للتخطيط في السعودية (1975-1986م)، ثم أصبح وزيرا للبترول (1986-1995م)، وكان بعد هذا مستشارا في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن (1995-2005م)، ثم سفيرا للسعودية في مصر (2005-2011م)، وهو المتوفى عام 2015م، رحمه الله.
والمؤلف بطرحه الفكري الحر الجريء والغيور قد خلع عباءة أستاذية الغرب للعالم في السياسة وأخلاقياتها وقيمها! حينما وصف حال الغرب واستشرف مستقبله مع بقية دول العالم برؤية سياسية ناقدة، وهو في كتابه هذا يرى أن عالم الغرب بدوله لا يمكن لهم أن يتركوا العالم الثالث وشأنه حتى ما بعد حقب الاستعمار (الاحتلال)، فهو يرى أن قوى الهيمنة الغربية تعمل على تشكيل وتلوين سياساتها الاستعمارية لاحتلال ما يسمى القرية العالمية بمفهوم القوة الجديدة، وفي هذا إلغاء لسيادة الدول، وإضعاف لهويات الأمم والشعوب الدينية والثقافية المتنوعة، بل وتهميش لقيمها المقاومة وتعددياتها!
وفي كتابه هذا يشرح مصطلح القوة من النوع الثالث بقوله «يشير مصطلح القوة من النوع الثالث إلى القدرة التاريخية للغرب على استخدام مزاياه الاستثنائية في مجال الاتصالات الالكترونية الدولية، إضافة إلى ثقله العسكري والاقتصادي والمؤسساتي لفرض قنواته وفكره السياسي على أنه فكر كوني يتسامى على الأبعاد الثقافية القائمة. وبالقوة من النوع الثالث يأمل الغرب أن يحد من القوى المضادة إلى القدر الذي ترى فيه البلدان النامية البلدان الغربية الرئيسة على أنها تستحق الاستثناء من القيود الموضوعة على الآخرين» (ص21). وهنا مكمن الخطر عند هشام ناظر، فقبول الاستثنائية، وهي الأستاذية الغربية في القيم مظهر من مظاهر الهزيمة للبلدان النامية، فضلا عن التنافس الحضاري الثقافي مع الغرب!
بل إن هشام ناظر ينقل عن الغرب استغرابهم الكبير وعدم تصديقهم أن المجتمعات المحافظة تستطيع الحفاظ على قيمها وهوياتها مع تقدمها التقني، ومن ذلك قوله: «ما زال بعض المثقفين الغربيين لا يصدقون أن المجتمعات المحافظة تستطيع أن تحافظ على فرضياتها [ثقافتها]، وفي نفس الوقت تستخدم وتبدع في مجالات التقنية المستقاة من البحث العلمي» (ص22).
وهشام ناظر في تحليله لظاهرة استمرار الغرب لمفاهيم الاحتلال والاستعمار الحديثة المطورة يرى أهمية محافظة الدول على هوياتها وثقافاتها من خلال الإسهام الفعال في الحضارة العالمية التي وصفها بالمهمة العظيمة، وأن هذا الإسهام ليس صعبا، مع الأخذ بعين الاعتبار الاستعداد باستخدام أحزمة الأمان كما يسميها، حيث يقول «وفي نهاية المطاف، فإن نجاح الدول النامية في الحفاظ على هويتها، يعتمد على قدر ونوعية مساهماتها الإنسانية بأكثر مما يعتمد على قدرتها على المواجهة والصراع. ولتجهيز أنفسهم لهذه المهمة العظيمة فإن عليهم أن يعدوا أنفسهم لعواصف ضارية، لن يستطيعوا عبورها بسلام دون استخدام أحزمة الأمان» (ص14-15).
ويكشف هشام ناظر سياسات الغرب المزدوجة من خلال القوة من النوع الثالث بمنظماته وشعاراته، وأنه يستعلي بحضارته على الآخرين، وهي التي لا تفصل بين السياسة والثقافة! مع أن الغرب يحاول فصل العالم الآخر عن دينه وثقافته لتسهيل السيطرة عليه وتوجيهه، ومن ذلك قوله «ولأن الغرب يرى أن ثقافته أساس للبشرية، فإن السؤال حول فصل السياسة عن الثقافة بالنسبة لهم غير مطروح أصلا! فالآلية السياسية والخيار السياسي يعرضان لغير الدول الغربية على أنهما خياران إضافيان، لا علاقة لهما بالبعد الثقافي المحلي للدول المختلفة» (ص26).
ويؤكد ناظر مكررا عن حقيقة الغرب في تعاطيه بمعاييره المزدوجة مع دول العالم الآخر في إبعادها عن هوياتها الثقافية التي تستمد منها القوة، وهو الخطأ القاتل كما يسميه كبش الفداء، وذلك بقوله «وهكذا عندما يصبح النظام السياسي الغربي المؤطر بثقافته هو الأساس الذي به يحدد ما هو مقبول من الأنظمة السياسية لكافة بلدان العالم، يوضع البعد الثقافي بالكامل خارج عملية اتخاذ القرار السياسي في المجتمعات غير الغربية ليصبح البعد الثقافي هو كبش الفداء... فكل الجدل المتعلق بالفصل بين السياسة والثقافة يستهدف توجيه الحوار الدولي بحيث يستبعد المواجهة الثقافية» (ص26-27).
ويشخص ناظر شيئا من أخلاقيات الغرب السياسية واستخدامهم لهذه القوة من النوع الثالث باحتلال العقل والتفكير من خلال الملكية الفكرية للتقنية وبرامجها الموجهة للعالم الآخر، وذلك بقوله «الاتصالات الالكترونية امتداد جديد للوعي يتيح للإنسان قوة غير مسبوقة لاختراق وتوجيه وعي الآخرين» (ص28).
بل إن المفكر ناظر يرى أن الغرب لا يستخدم المنظمات الدولية والأممية للتأثير السياسي فحسب، فالأبعاد الثقافية للأمم والشعوب مستهدفة بالاختراق بهذه القوة من النوع الثالث، وعن هذا قال «فمن خلال التحكم في الاتصالات العالمية والسيطرة على المنظمات الدولية تستطيع بعض الدول الغربية اليوم أن تخترق كل الأبعاد الثقافية وكل الدول» (ص37).
وهذه الأقوال وغيرها وما يماثلها كثير في الكتاب تجعل القارئ يدرك الرؤية الثاقبة للمفكر ناظر، لا سيما مع هذه التحولات الواردة في بداية المقال، فالأديان والثقافات المنبثقة مستهدفة بحكم أساسها القوي، بل وبحجم ما تمنحه من مناعة وحصانة وقوة للدول والمجتمعات تجاه احتلال القرية الكونية بثقافات الغرب وقيمه.
وأخيرا فإن قراءة واحدة مختارة من أقوال بعض النقاد للكتاب توضح رسالته وهدف الكاتب، كما قال الدبلوماسي الأمريكي كاتلر (Walter L. Cutler): «القوة من النوع الثالث كتاب يجتمع فيه في وقت واحد عمق التفكير واستفزازه، وفي بعض الأحيان ذلك التحليل المثير للجدل عن أثر العصر الالكتروني المشبع بفكرنا الغربي وآثاره المتناثرة في بقية العالم. ومؤلفه هشام ناظر ينادي بصحوة موقوتة ومثيرة للنخبة في العالم النامي أن يشمروا عن سواعدهم كي لا تستعمر ثقافاتهم» (ص9-10).
وأقول إن هذا الكتاب فيه رفع للسقف المعرفي تجاه الغرب وقوته وحقيقة حضارته وسياساته وثقافته، وإن قيمه ليست المعيار الكوني، بل إن فرضها على العالم يتنافى مع مبادئ الديمقراطية والحرية والتعدديات وحقوق الإنسان! كما أن في الكتاب كشفا لمفاهيم جديدة عن القوة الغربية للاحتلال الحديث للعقول والأفكار والسياسات الدولية، واستغلال تناقضات العالم الثالث وتوظيفها في مصالح النزاعات الإثنية الدولية! (سنة وشيعة) على سبيل المثال كما هي في مواضع أخرى من الكتاب.
والكتاب بفصوله المثيرة للاهتمام والقراءة للغرب وحضارته يعتبر إضافة علمية مهمة في القراءات النقدية للسياسات الغربية وقيمها التي تسعى إلى عولمتها وفرضها بالقوة، ولهذا فهل المؤلف لهذا الكتاب يريد النقد للغرب والتنبيه للعالم الآخر للاحتفاظ بثقافاته حسب وصف كاتلر؟ أم يريد التحرر وينبه ساسة العالم النامي لما يجب فعله حول المحافظة على المفاهيم والثقافات المحلية بعيدا عن الاستعمار الجديد للعالم؟
أعتقد أن الكتاب بحاجة ماسة إلى قراءات وكتابات متعددة للجوانب المتنوعة فيه؛ وما فيه من فكر حر حول الغرب وأخلاقياته وقيمه السياسية ومفاهيم الاستعمار الحديث، لا سيما أن الغرب بهذه التحولات ربما ينتحر بحضارته! وأرجو أن تكون للكتاب أكثر من قراءة فهو يستحق.
والمهم هنا أن هذه التحولات ذكرتني بقراءة لي قديمة لكتاب مثير للانتباه ومفيد يحمل رؤية مستقبلية للسياسات الغربية كتبه مفكر سعودي حول مستقبل العالم مع الغرب فيما بعد مرحلة الاستعمار (الاحتلال) كما يسميها في كتابه! وكيف أن الغرب سيستخدم استعمارا جديدا للقرية العالمية كما عبر عنها مؤلف الكتاب المفكر السعودي معالي الوزير والسفير الأستاذ هشام ناظر - رحمه الله - الذي سمى هذا الاحتلال الحديث (القوة من النوع الثالث)، وهو كتاب يحمل رؤية مستقبلية عن الأخلاق السياسية الغربية، وما فيها من مخاطر على الهويات والقيم والثقافات والسياسات المحلية لبقية دول العالم! فما هو هذا الكتاب؟ ومن هو هذا المفكر؟ وما هي هذه القوة؟
كان صدور هذا الكتاب (القوة من النوع الثالث - محاولة الغرب استعمار القرية العالمية)، بطبعته العربية قبل أكثر من عشرين عاما، وهو مترجم من (الإنجليزية) اللغة الأم للكتاب، ترجمة الدكتور خالد محمد باطرفي، ونشر مؤسسة المدينة للصحافة والطباعة والنشر بالسعودية عام 1423هـ، والكتاب يتكون من خمسة فصول بالعناوين التالية: التغيير المقصود يصنع القوة من النوع الثالث، القوة من النوع الثالث وكيف تعمل، الاستخدامات الأولية للقوة من النوع الثالث، القوة من النوع الثالث مواصفات النجاح، القوة من النوع الثالث دور الدول النامية.
ويوصف المؤلف بأنه الوزير والسفير هشام محيي الدين ناظر الذي التحق بجامعة كاليفورنيا، وحصل على درجة البكالوريوس مع مرتبة الشرف في العلاقات الدولية عام 1957م، وعلى الماجستير في العلوم السياسة عام 1958م، وكان ناظر أول وزير للتخطيط في السعودية (1975-1986م)، ثم أصبح وزيرا للبترول (1986-1995م)، وكان بعد هذا مستشارا في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن (1995-2005م)، ثم سفيرا للسعودية في مصر (2005-2011م)، وهو المتوفى عام 2015م، رحمه الله.
والمؤلف بطرحه الفكري الحر الجريء والغيور قد خلع عباءة أستاذية الغرب للعالم في السياسة وأخلاقياتها وقيمها! حينما وصف حال الغرب واستشرف مستقبله مع بقية دول العالم برؤية سياسية ناقدة، وهو في كتابه هذا يرى أن عالم الغرب بدوله لا يمكن لهم أن يتركوا العالم الثالث وشأنه حتى ما بعد حقب الاستعمار (الاحتلال)، فهو يرى أن قوى الهيمنة الغربية تعمل على تشكيل وتلوين سياساتها الاستعمارية لاحتلال ما يسمى القرية العالمية بمفهوم القوة الجديدة، وفي هذا إلغاء لسيادة الدول، وإضعاف لهويات الأمم والشعوب الدينية والثقافية المتنوعة، بل وتهميش لقيمها المقاومة وتعددياتها!
وفي كتابه هذا يشرح مصطلح القوة من النوع الثالث بقوله «يشير مصطلح القوة من النوع الثالث إلى القدرة التاريخية للغرب على استخدام مزاياه الاستثنائية في مجال الاتصالات الالكترونية الدولية، إضافة إلى ثقله العسكري والاقتصادي والمؤسساتي لفرض قنواته وفكره السياسي على أنه فكر كوني يتسامى على الأبعاد الثقافية القائمة. وبالقوة من النوع الثالث يأمل الغرب أن يحد من القوى المضادة إلى القدر الذي ترى فيه البلدان النامية البلدان الغربية الرئيسة على أنها تستحق الاستثناء من القيود الموضوعة على الآخرين» (ص21). وهنا مكمن الخطر عند هشام ناظر، فقبول الاستثنائية، وهي الأستاذية الغربية في القيم مظهر من مظاهر الهزيمة للبلدان النامية، فضلا عن التنافس الحضاري الثقافي مع الغرب!
بل إن هشام ناظر ينقل عن الغرب استغرابهم الكبير وعدم تصديقهم أن المجتمعات المحافظة تستطيع الحفاظ على قيمها وهوياتها مع تقدمها التقني، ومن ذلك قوله: «ما زال بعض المثقفين الغربيين لا يصدقون أن المجتمعات المحافظة تستطيع أن تحافظ على فرضياتها [ثقافتها]، وفي نفس الوقت تستخدم وتبدع في مجالات التقنية المستقاة من البحث العلمي» (ص22).
وهشام ناظر في تحليله لظاهرة استمرار الغرب لمفاهيم الاحتلال والاستعمار الحديثة المطورة يرى أهمية محافظة الدول على هوياتها وثقافاتها من خلال الإسهام الفعال في الحضارة العالمية التي وصفها بالمهمة العظيمة، وأن هذا الإسهام ليس صعبا، مع الأخذ بعين الاعتبار الاستعداد باستخدام أحزمة الأمان كما يسميها، حيث يقول «وفي نهاية المطاف، فإن نجاح الدول النامية في الحفاظ على هويتها، يعتمد على قدر ونوعية مساهماتها الإنسانية بأكثر مما يعتمد على قدرتها على المواجهة والصراع. ولتجهيز أنفسهم لهذه المهمة العظيمة فإن عليهم أن يعدوا أنفسهم لعواصف ضارية، لن يستطيعوا عبورها بسلام دون استخدام أحزمة الأمان» (ص14-15).
ويكشف هشام ناظر سياسات الغرب المزدوجة من خلال القوة من النوع الثالث بمنظماته وشعاراته، وأنه يستعلي بحضارته على الآخرين، وهي التي لا تفصل بين السياسة والثقافة! مع أن الغرب يحاول فصل العالم الآخر عن دينه وثقافته لتسهيل السيطرة عليه وتوجيهه، ومن ذلك قوله «ولأن الغرب يرى أن ثقافته أساس للبشرية، فإن السؤال حول فصل السياسة عن الثقافة بالنسبة لهم غير مطروح أصلا! فالآلية السياسية والخيار السياسي يعرضان لغير الدول الغربية على أنهما خياران إضافيان، لا علاقة لهما بالبعد الثقافي المحلي للدول المختلفة» (ص26).
ويؤكد ناظر مكررا عن حقيقة الغرب في تعاطيه بمعاييره المزدوجة مع دول العالم الآخر في إبعادها عن هوياتها الثقافية التي تستمد منها القوة، وهو الخطأ القاتل كما يسميه كبش الفداء، وذلك بقوله «وهكذا عندما يصبح النظام السياسي الغربي المؤطر بثقافته هو الأساس الذي به يحدد ما هو مقبول من الأنظمة السياسية لكافة بلدان العالم، يوضع البعد الثقافي بالكامل خارج عملية اتخاذ القرار السياسي في المجتمعات غير الغربية ليصبح البعد الثقافي هو كبش الفداء... فكل الجدل المتعلق بالفصل بين السياسة والثقافة يستهدف توجيه الحوار الدولي بحيث يستبعد المواجهة الثقافية» (ص26-27).
ويشخص ناظر شيئا من أخلاقيات الغرب السياسية واستخدامهم لهذه القوة من النوع الثالث باحتلال العقل والتفكير من خلال الملكية الفكرية للتقنية وبرامجها الموجهة للعالم الآخر، وذلك بقوله «الاتصالات الالكترونية امتداد جديد للوعي يتيح للإنسان قوة غير مسبوقة لاختراق وتوجيه وعي الآخرين» (ص28).
بل إن المفكر ناظر يرى أن الغرب لا يستخدم المنظمات الدولية والأممية للتأثير السياسي فحسب، فالأبعاد الثقافية للأمم والشعوب مستهدفة بالاختراق بهذه القوة من النوع الثالث، وعن هذا قال «فمن خلال التحكم في الاتصالات العالمية والسيطرة على المنظمات الدولية تستطيع بعض الدول الغربية اليوم أن تخترق كل الأبعاد الثقافية وكل الدول» (ص37).
وهذه الأقوال وغيرها وما يماثلها كثير في الكتاب تجعل القارئ يدرك الرؤية الثاقبة للمفكر ناظر، لا سيما مع هذه التحولات الواردة في بداية المقال، فالأديان والثقافات المنبثقة مستهدفة بحكم أساسها القوي، بل وبحجم ما تمنحه من مناعة وحصانة وقوة للدول والمجتمعات تجاه احتلال القرية الكونية بثقافات الغرب وقيمه.
وأخيرا فإن قراءة واحدة مختارة من أقوال بعض النقاد للكتاب توضح رسالته وهدف الكاتب، كما قال الدبلوماسي الأمريكي كاتلر (Walter L. Cutler): «القوة من النوع الثالث كتاب يجتمع فيه في وقت واحد عمق التفكير واستفزازه، وفي بعض الأحيان ذلك التحليل المثير للجدل عن أثر العصر الالكتروني المشبع بفكرنا الغربي وآثاره المتناثرة في بقية العالم. ومؤلفه هشام ناظر ينادي بصحوة موقوتة ومثيرة للنخبة في العالم النامي أن يشمروا عن سواعدهم كي لا تستعمر ثقافاتهم» (ص9-10).
وأقول إن هذا الكتاب فيه رفع للسقف المعرفي تجاه الغرب وقوته وحقيقة حضارته وسياساته وثقافته، وإن قيمه ليست المعيار الكوني، بل إن فرضها على العالم يتنافى مع مبادئ الديمقراطية والحرية والتعدديات وحقوق الإنسان! كما أن في الكتاب كشفا لمفاهيم جديدة عن القوة الغربية للاحتلال الحديث للعقول والأفكار والسياسات الدولية، واستغلال تناقضات العالم الثالث وتوظيفها في مصالح النزاعات الإثنية الدولية! (سنة وشيعة) على سبيل المثال كما هي في مواضع أخرى من الكتاب.
والكتاب بفصوله المثيرة للاهتمام والقراءة للغرب وحضارته يعتبر إضافة علمية مهمة في القراءات النقدية للسياسات الغربية وقيمها التي تسعى إلى عولمتها وفرضها بالقوة، ولهذا فهل المؤلف لهذا الكتاب يريد النقد للغرب والتنبيه للعالم الآخر للاحتفاظ بثقافاته حسب وصف كاتلر؟ أم يريد التحرر وينبه ساسة العالم النامي لما يجب فعله حول المحافظة على المفاهيم والثقافات المحلية بعيدا عن الاستعمار الجديد للعالم؟
أعتقد أن الكتاب بحاجة ماسة إلى قراءات وكتابات متعددة للجوانب المتنوعة فيه؛ وما فيه من فكر حر حول الغرب وأخلاقياته وقيمه السياسية ومفاهيم الاستعمار الحديث، لا سيما أن الغرب بهذه التحولات ربما ينتحر بحضارته! وأرجو أن تكون للكتاب أكثر من قراءة فهو يستحق.