بسمة السيوفي

قاتل الله الاعتياد

الأربعاء - 13 نوفمبر 2024

Wed - 13 Nov 2024

نحن البشر، بطبيعتنا نتمسك بالمألوف خوفا من المجهول. في البداية نتفاجأ ونقاوم، لكن مع مرور الوقت نألف ونعتاد.. ذاك الاعتياد المخيف الذي يتقلب بين النعمة والنقمة.. يتسلل إلى تفاصيل حياتنا فيصبح جزءا لا يتجزأ من التجربة الإنسانية.. ليمنحنا شعورا بالأمان والاستقرار، ثم تتحول الأمور العادية إلى رتابة وتكرار وركود.. يؤثر على مشاعرنا وأفكارنا.

هذه القدرة على الاعتياد ليست مجرد طبيعة بشرية، بل هي ضرورة للبقاء في عالم مليء بالتحديات والتغيرات المتسارعة.

يقولون إن المرء يحتاج من 21 إلى 66 يوما لتكوين عادة جديدة، حيث يصبح السلوك تلقائيا مع التكرار المستمر، ويسهل على الفرد القيام به دون تفكير مفرط أو مقاومة، وعلى الرغم من أن الاعتياد يسهل الحياة ويقلل التوتر، إلا أنه قد يؤدي تدريجيا إلى فقدان الحماس والدهشة تجاه الأنشطة المألوفة، مما يؤثر سلبا على مشاعرنا واستجاباتنا العاطفية.

ومهما كانت فوائد الاعتياد إلا أنه قد يتحول إلى سجن نفسي، كما وصفه الفيلسوف جون ستيوارت ميل، إذ يصبح الروتين مصدرا للأمان الزائف.. فيقيد القدرة على التجديد والنمو الشخصي.

هناك اعتياد في العلاقات العاطفية.. قد يؤدي إلى تراجع شدة الحب بمرور الوقت، حيث تبدأ مشاعر الشغف في التقلص ويحل محلها رتابة تؤثر على حيوية العلاقة. فما كان مليئا بالإثارة، يتحول إلى مجرد روتين عاطفي ممل.

وقد يشعر بعض الأشخاص بالتعاسة نتيجة هذه الرتابة، فيبحثون عن الإثارة في علاقات عابرة أو تجارب جديدة، ويدورون في حلقة مفرغة من البحث المستمر عن الإثارة العاطفية.

ولنفهم الاعتياد بشكل أكبر لا بد من النظر إلى مراحل تطور العلاقات الإنسانية في نموذج "توكمان"، حيث تتشكل الديناميكيات الاجتماعية عبر خطوات تمهد الطريق للنمو والتغيير.

هناك خمس مراحل للتطور وهي: التكوين (Forming) حيث يتعرف الأفراد على بعضهم بعضا؛ الصراع (Storming) حيث تظهر التوترات والاختلافات؛ بعدها التنظيم (Norming) حيث يبدأ التناغم والتعاون؛ ثم الأداء (Performing) حيث تصبح العلاقات أكثر تقاربا واعتيادية.

بعدها تأتي المرحلة الخامسة وهي مرحلة التفكيك (Adjourning) التي تحدث عند الاعتياد.

يظهر تأثير الاعتياد في سياقات أوسع، فكما يقود الاعتياد في العلاقات إلى الركود العاطفي، يخلق تكرار الروتين نفسه في بيئة العمل نوعا من العجز الإبداعي، حيث يتحول الأداء الوظيفي إلى مجرد مهام روتينية تفتقر إلى الحافز والإلهام.. لذا فإن بيئة العمل التي تتيح للموظفين استكشاف مهام جديدة أو أساليب عمل متنوعة.. لديها موظفون أكثر رضا وحماسا.

أما عن المجتمعات، فيظهر تأثير الاعتياد في العادات والتقاليد التي تسيطر على الأفراد. فبالرغم من دوره المهم في تعزيز الهوية والاستقرار، إلا أن بعض العادات الموروثة قد تتحول إلى عقبة أمام التقدم.. مثل أن تتمسك المجتمعات بأنماط تعليمية واقتصادية قديمة لدرجة تعوق قدرتها على التكيف مع العصر، فتقلل من فرص الشباب في تطوير مهارات جديدة تواكب المستقبل.

وللتخلص من تأثير الاعتياد في العموم، يمكننا تحديد ثلاثة مجالات تحتاج إلى تجديد مثل: العمل والعلاقات الاجتماعية والنمو الشخصي. يمكننا البدء بتغيير عنصر واحد يوميا.. عبر إدخال تعديلات بسيطة في الروتين اليومي، مثل تجربة أنشطة جديدة وتعلم مهارات مختلفة، من الممكن أيضا اكتشاف أماكن حديثة لممارسة الرياضة، أو اختيار طريق مختلف للذهاب إلى العمل، أو تجربة وجبات مختلفة، أو تخصيص 30 دقيقة يوميا لتعلم شيء جديد.. كلها ممارسات قد تساعد على تجديد النشاط وكسر رتابة الحياة اليومية.

ومن أبرز الحلول لمواجهة مشاعر الاعتياد.. ممارسة الوعي الذاتي Mindfulness.. فمن خلال ممارسات التأمل، يمكننا تدريب أذهاننا على الوعي بمشاعرنا وأفكارنا للتعرف على اللحظات التي يسيطر فيها الاعتياد على حياتنا، مما يتيح لنا اتخاذ خطوات واعية نحو التجديد والتغيير.

أما عن التجديد في علاقاتنا العاطفية فمن المهم ترتيب أنشطة متنوعة مع الشريك، مثل زيارة أماكن أو تعلم مهارة جديدة، بالإضافة إلى تبادل الاهتمامات والهوايات لتعميق التواصل.. ومن المهم أيضا تخصيص وقت منتظم للتحدث عن المشاعر والأفكار.

أما في العمل، فيمكن تغيير أماكن العمل أو الانضمام إلى ورش تدريبية لتعلم مهارات جديدة.

كما يمكن تحفيز الموظفين من خلال تحديات إبداعية شهرية لحل المشكلات أو ابتكار طرق حديثة.. بالإضافة إلى تشجيع التغذية الراجعة المنتظمة بين الموظفين عبر اجتماعات تتيح النقاش المفتوح وتقدم اقتراحات لتحسين الأداء.

من الأمثلة الحكيمة على التوازن بين الاعتياد والتغيير.. ما ورد في السنة النبوية الشريفة من أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان إذا خرج إلى العيدين، رجع في غير الطريق الذي خرج فيه" (البخاري).

وبالرغم من تعدد الحكم والمعاني لهذا الفعل النبوي، إلا أنه أيضا دعوة للتغيير في العادات الصغيرة بشكل قد يكون له تأثير عميق في تجديد النفس.. وتحفيز الطاقة الروحية والعقلية.

الاعتياد فخ ذكي يتسلل إلى تفاصيل حياتنا، لكنه جزء لا يتجزأ من التجربة الإنسانية.. الشخص الذي يقع في قبضة الاعتياد يشبه من يغرق في دوامة من الرمال المتحركة؛ كلما حاول النهوض، جذبته العادة إلى عمق أكبر، وكأنها تبتلع روحه.

التغيير ليس اتهاما للمعتاد والثابت، بقدر ما هو دعوة لفتح أبواب التجديد.

فقاتل الله الاعتياد لأنه يجعلنا نغرق في صمت المألوف.

smileofswords@