عمر الأنصاري

في رحيل الشاعر أحمد بن عبدالله الأنصاري.. متنبيٌ وجد سيف دولته في "سلمان" أميرًا وملكاً

كتب آخر قصائده في ذكرى بيعة "أمير المستقبل" ورؤيته
كتب آخر قصائده في ذكرى بيعة "أمير المستقبل" ورؤيته

الثلاثاء - 06 ديسمبر 2022

Tue - 06 Dec 2022

لكأنها القصة التي ولد ليرويها، وهاجر هجرة المتنبي إلى سيف الدولة ليكون في رحابها ويعيش وسط حدائقها المعلقة في قلبه ووجدانه، هو وقبيلته.

كانت تلك السمة الأبرز التي طبعت حياة أحمد بن عبدالله الأنصاري، الشاعر المفوه القادم إلى عصرنا بشعر حمل وتشرب أصالة ما نطقت به العرب في جاهليتها، وبسالة ما تصدرت به في إسلامها، ورقة وعذوبة ما تغنت به بين ينابيع الأندلس وحدائقه.

عاش شاعرنا حياة استثنائية ندر أن عاشها شاعر في عصرنا، لما اتسمت به مراحلها من تقلبات نفسية وعاطفية واجتماعية، بدأت تجلياتها منذ اللحظات الأولى التي بدأ يشب فيها عن الطوق في مسرح صباه بصحراء تينبكتو، وانتهاء باللحظة التي شهدت ميلاده الحقيقي، ساعة وقوفه شابا غرا بين الملتزم والحجر، وبين الروضة والمحراب، حيث صاغ قصائد الشوق والحنين التي استعاد فيها أيام الأنصار ونصرتهم لنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم وانتصاراتهم له، اللحظة التي يصفها بأنها عودة الفرع إلى الأصل، حيث يقول:

فعدنا إلى الأصل القديم لعلمنا

بأن الفروع في الأصول لها محل

فها نحن في أرض الجزيرة أمنا

وضعنا عصا الترحال فالأم لا تمل

لأنا بني الأنصار أولى بقومنا

وإن بني عبد العزيز هم الأمل..

ولم يكن الشاعر ليجد كبير عناء في بيئته الجديدة بالحجاز ونجد، إذ وجد أمامه وهو شاب، ذات البيئة التي نهل منها أخلاقه وفروسيته وفصاحة لسانه، لتماثل البيئتين في أصالتهما وروحهما.

فقد ولد شاعرنا وترعرع بين أظهر قبيلة حبلى بالعلماء والشعراء والفرسان، والقادة الذين أسسوا وجدانه وأوقدوا شعلة الحماسة في نفسه، فضلا عن مسرح صبا غناء، خلد صوره الزاهية في معلقاته الاستثنائية، إن تعلق الأمر بأيام جهاد أسلافه في الصحراء الكبرى ضد المحتلين والمعتدين، أو تعلق بأيام السلم والعزة والثراء الذي عاشته القبيلة في مضاربها الواسعة بمنطقة تينبكتو، إلى أفول تلك الأيام وتبدل الحياة وإلقاء عصا الترحال.

وفي ذلك يقول:

خليليَّ عوجا فابْكيا مَن تحَوَّلوا

ومَن بِهمُ الأعضاءُ بالوجْدِ قُحَّل

رحِيلٌ بليلٍ حمّلوا كلّ بَازِل

وكَوْمَاءَ يَعْلُوهُمْ ملاءٌ مُذَيَّل

فألْقَيْتُ في إثْرِ الظَّعائن نَظْرَةً

بها ماتَ قلبي حين فاتَ التَّعَلُّل

أُخَاطِبُ آثَارَ الدِّيارِ تَلَهُّفا

وحُزْنا وأحْشَائي مِن الوَجْدِ تُفْتَل

قبيلتُنَا خيرُ القبائل كلّها

وأفعالُنا أعْلا وأسْنَا وأكمل

ونحنُ عُرِفْنا بالجِوَارِ وبالقِرَى

وبالصَّبر عند الحرب واللّيل ألْيَلُ

فأيُّ أُنَاسٍ صابَرُوا مثل صبرنا

بِبَدْرٍ؟ ومَن مثلُ النَّبٍيِّ يُبَجَّل ؟

وفي أُحُدٍ وفي حُنَيْنٍ وخَنْدَق

وخَيْبَرَ مَزَّقْنا العِدَى فتسلَّلُوا

وقد ذاقَ كذَّابُ اليمامةِ بأسنا

فَخَرَّ صريعا واليمامةُ تؤْكَلُ

ونحنُ دخلنا الحِصْنَ قَهْرًا وعَنْوَة

وكلُّ جيوش الفَتْحِ حَاروا وزُلْزِلُوا

ولم ينته الشاعر من استذكار أيام آبائه في الصحراء وأطلال الأسلاف التي وقف عليها، حتى رحل إلى نجد التي عانق هضابها وانتشى بنسيمها الفواح الذي أعاد إلى ذاكرته أيام العرب الأولى التي طالما تغنى بها في صباه.

وكأي شاعر فحل وباحث عن بلاط ينثر فيه دره، وجد شاعرنا ضالته في أكرم بلاطين، الأول لدى حاتم العصر الذي نثر على الشاعر وقبيلته كرمه، الأمير محمد بن سعود الكبير وأسرته، الذين أغدقوا على الشاعر وقبيلته كرما ووفادة ومكانة لم يجدوا لها مثيلا مذ فارقوا مضاربهم، وفيه يقول:

وسلَّم الله وجه الخير والدنا

هو(الكبير) ووهَّاب الجزيلات

نجل الشوامخ والشُّمِّ الرفيعات

أبو البدور الكريمات المضيآت

رحب الفناء لكلّ النازلين به

فَعْمُ الجفان بأصناف الهنيَّات

جئناه يطردنا ذلٌّ ومسغبة

فكان كالغيث في دفع المجاعات

رعى (الوصيّة) في الأنصار إذ خليت

دنياهمُ من مداوٍ للجراحات.

وامتدت تلك السلوة والمكانة التي وجدها الشاعر وازدهرت في أشهر وأكرم بلاط لأمير في عصره، أمير الرياض حينها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، الذي ضاهى بلاطه بلاط سيف الدولة في عصره، حيث اشتهر أنه محط رحال الأدباء والمثقفين والشعراء وحملة الفكر، البلاط الذي صاغ فيه شاعرنا أجمل قصائده ونعم بجواره بأفضل أيامه التي أطلق فيها العنان لقريحته التي لم تتوقف قط في حب سلمان ونظم الدرر فيه حتى فاضت روحه إلى بارئها، ورافقت قصائد الشاعر أمير الرياض في شتى المناسبات التي شهدتها إمارة الرياض والتي خلدها في ديوانه الموسوم بـ"خفق البنود":

وفيه قال:

ما غاب سلمان يوما عن مناسبة

تبني الرياض وتوري ضوء مقتبس

حلّى الرياض عقودا من جواهره

حتى بدت كثغور الخرّد اللّعس

إليك يا سيدي سلمان عاد بنا

همّ تردد في الأحشاء والنفس..

وقال في قصيدة أخرى:

كم من يدٍ لك يا سلمان عاد بها

ماء الحياة إلى شُهْب التجاعيد

أوليتنا منك برا لا يكافئه

شعري ولو طال تصويبي وتصعيدي

فأنتَ أرفع من مدحي وتَطْرِيَتِي

لكنه صوت عرفاني وتمجيدي

من لي بِدُرٍّ نفيسٍ كي أُرصِّعه

لصدر سلمان لا للخُرَّدِ الغيد

أسمى القصائد طُرا بل وأبلغها

ما صاغه بائسٌ يُدعى لمعدود.

أثمرت رحلة شاعرنا التي امتدت لعقود، عن ديوانين، هما "خفق البنود" الذي نظمه في أيام الدولة السعودية حاضرا وماضيا، والذي تناولت قصائده ملحمة الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن في توحيد الجزيرة العربية، وأبنائه من بعده، وبلا ريب فقد ذخر الديوان بملاحم شعرية لملوك السعودية منذ الملك المؤسس، كما خلد أهم المناسبات في التاريخ السعودي المعاصر، إن كانت سياسية أو غيرها، مثل حرب تحرير الكويت، وعاصفة الحزم، ورحلة أول رائد فضاء عربي مسلم الأمير سلطان بن سلمان، فضلا عن قصائده ودرره الأخيرة التي كانت التحولات الاجتماعية ورؤية القيادة السعودية ممثلة في أمير المستقبل محمد بن سلمان موضوعها ومادتها، والذي قال فيه:

يا سيدي يا ابن هام المجد يا رجلا

في حضنه أمننا من كل مرهوب

امدد لنا يدك اليمنى نقبلها

فنحن في شغف لمجمع الطيب

امدد يمينك يا ميمون، بيعتنا

عقد وعهد وإنظار لمرغوب

اختارك الملك الأغر عدتنا

سلمان وهو طبيب في المواجيب

أنت اللبيب يرى بنور فطرته

ما لا يراه بعام كل موهوب

من ذا الذي لا يرى آثار رؤيتكم

نحو الثلاثين في دنيا الأعاجيب.

أما الديوان الثاني، فهو الخزرجيات، الذي يعد وثيقة تاريخية لقبيلة الشاعر، بما احتواه، من قصائد تناولت إشراقة القبيلة وانبثاقاتها الأولى في مواطن أسلافها (المدينة المنورة)، وأيامها المشهودة إبان سلطتها وسطوتها القوية في الصحراء الكبرى في تينبكتو، ثم التحولات التي عاشتها بعد تمزيق الاستعمار للمنطقة وسلطناتها التي كانت قبيلة الشاعر من أهمها حينها.

وقد سطر الشاعر الكبير أيام قبيلته مفصلة، ورحلة أمجادها ونكساتها، نذيرا بما آلت إليه أحوالها، ومبشرا ولاهجا بالشكر لمن أنجدها في محنتها واغترابها، متمسكا في كل ذلك بموروثه الغني وتاريخه الذاخر الذي ما برح يذكر به أبناء قبيلته في معظم قصائده.

من ذلك وقوفه المستمر على أطلال قبيلته، إذا يقول:

تذكّرتُ أيّام الصِّبا والمواسِما

وعيشا على(ذات الأرَاكَةِ) ناعما

وأيّامَ (ذَاتِ السَّرْحِ) قُرْبَ (أغَارُسٍ)

وإذْ كنتُ لا أخشى على اللَّهْوِ لائما

وإذْ كنتُ صُعْلوكًا إذا اللّيل جَنَّنِي

وشيخا وَقُورًا حين أُصْبِحُ عالِما

أقودُ شبابًا كالقِلادةِ نظْمُهُم

نصيدُ ظِباءً أو نصيدُ حمائما

فيومًا ترى بيْنَ الخِيام أماجِدًا

يَكُبُّونَ للأذْقَانِ كُومًا توائما

ويومًا ترى على الجِيادِ جَحَاجِحًا

وأُسْدًا غِضابًا يَفْلُقون الجماجِما

لَئن فَطَمَتْ أُمٌّ رَءُومٌ وليدَها

فما خِلْتُنِي مِن ذلك العيْشِ فَاطِمَا

وقفتُ على الأطْلال بعد شتاتِهِم

فأنْكرتُها وقلتُ: هل كنتُ حالِما؟

فلأْيًا وَجَدْنَا أصْلَ سَرْحَةِ جَدِّنا

وسُودًا ثلاثا كالحَمَام جَوَاثِما

فلمَّا عرفتُ الدَّارَ خارتْ عزيمَتي

وأنضَبْتُ دمعا كان مِن قَبْلُ ساجِما

وسَاءَلْتُ رَسْمَ الدَّار: أيْنَ عشيرتي؟

وأيْنَ رِجالٌ يمْنعُون الكَرَائما ؟

وأيْنَ مصابيحُ الدُّجَى مِنْ عُمُومَتي؟

إذا صار لوْنُ الدَّهْر أغْبَرَ قاتِما

فكان الجوابُ: أنَّهُم قد تفرَّقوا

يخوضون بحْرًا هائجا مُتَلاطِما

فكلُّ بلادٍ قد رَمَتْهُمْ لأُخْتِها

كتائهَةٍ جَرْبَاءَ تُعْدِي السَّوَائما

ورغم المكانة والاعتراف اللذين وجدهما الشاعر، إلا أن ديوانه الذي لم يطبع إلا في وقت متأخر، لهو بأمس الحاجة إلى دراسته وتناول النقاد له، إذ يعد ديوانا استثنائيا ومادة قل نظيرها، بسبب طبيعة الشاعر ومادة ديوانه، الذي كتبت قصائده بأنصع ما كتبت به العرب شعرها، فضلا عن البيئة العربية الخالصة التي كانت مادة غنية في الديوان، والتي صاغ فيها كل ما تناولته أوابد العرب وقصائدها في النسيب والغزل والحماسة والسؤدد.