باسم محمد حبيب

السبي البابلي لليهود وتأثيراته الكبيرة على بلاد الرافدين والعالم

الاحد - 04 ديسمبر 2022

Sun - 04 Dec 2022

على الرغم من أن السبي البابلي لليهود عام 586 ق.م كان نتاجا لحدث عسكري صغير وهو سقوط دولة يهوذا بيد الجيش البابلي الذي يقوده الملك نبوخذ نصر الثاني (604 - 562 ق.م)، إلا أن تأثيراته كانت واسعة وكبيرة، إذ شملت جوانب عدة: سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ودينية... إلخ، ولعل أهم ما سببه من تأثيرات هو إضافة سكان جدد إلى سكان مدينة بابل المكتظة آنذاك بالأسرى والمهجرين من بلدان عدة نتيجة الغزوات البابلية فضلا عن الهجرات التي جاءت إلى بابل بعد صعود نجمها مرة أخرى وذيوع صيتها من أثر النهضة العمرانية والحضارية الكبيرة التي أرساها مؤسس السلالة البابلية الحادية عشرة (الكلدانية) نابوبولاصر (626 – 605 ق.م) وولده نبوخذ نصر، الأمر الذي أخل بالتركيبة السكانية للعاصمة البابلية وضواحيها، إذ تعرض دراسات عدة أن نسبة السكان المواطنين فيها في تلك المدة كانوا لا يتعدون 10% من عموم سكان المدينة.

ولم يقتصر أثر السبي على ما سببه من خلخلة للنسيج الاجتماعي لمدينة بابل، بل وعلى ما أنتجه من تأثيرات ثقافية ودينية كبيرة، من بينها: ما سببه مجيء اليهود إلى بابل من جدل ديني أدى إلى زعزعة الطابع التعددي للديانة البابلية واتجاه البابليين إلى إيجاد رؤية تعطي لإله واحد منزلة تفوق بقية الآلهة، مع أن هناك من يرى بأن البابليين والآشوريين كانوا قد سبقوا اليهود في الاهتداء إلى التفريد -أي إعلاء منزلة إله واحد على بقية الآلهة- وذلك بين منتصف وأواخر الألف الثاني قبل الميلاد، ما يعني أن اليهود هم الذين تأثروا بهم أو حتى بالمصريين القدماء الذي يعرض البعض امتلاكهم لإرث توحيدي ضارب في القدم، أي إلى بداية الحضارة المصرية، ثم تكامل في دعوة أخناتون التوحيدية في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، لكن هذا لا ينفي فرادة الطابع التوحيدي للديانة اليهودية الذي ربما ألهم البابليين بتبني طابع مماثل، وربما كانت ديانة الإله سين التي نادى بها الملك نابو نائيد (555 - 539 ق.م) من تجليات ما شهدته المدينة من جدل ديني أدى أيضا إلى تطور الديانة اليهودية التي أخذت تحمل طابعا عالميا بعد أن اقتبست بعضا من معتقدات وأساطير بلاد الرافدين، وربما وصل هذا التأثير أيضا إلى الفرس الذين يجاورون البابليين من جهة الشرق، فكان أن تبنوا ديانة توحيدية هي الديانة الزرادشتية، مع وجود رؤية ترى العكس، أي أن اليهود هم الذين تأثروا بالديانة الزرادشتية واقتبسوا التوحيد منها فضلا عن مفهوم الجنة والنار الذي لم تعرفه حضارة بلاد الرافدين، ومن ثم نشأ صراع ديني بين أتباع الإله مردوخ وأتباع الإله سين، على الرغم من أنهم كانوا جزءا من ديانة واحدة هي ديانة بلاد الرافدين التي تؤمن بتعدد الآلهة، ما أدى إلى تعاون كهنة الإله مردوخ مع الملك الفارسي كورش الثاني (559 - 530 ق.م) الذي أطاح بحكم سلالة بابل الأخيرة عام 539 ق.م، فباتت بلاد الرافدين مقسمة على ثلاث ديانات: ديانة بلاد الرافدين التعددية والديانة اليهودية التوحيدية والديانة الزرادشتية المتأثرة بها وبديانة بلاد الرافدين.

أما ما أنتجه السبي من تأثيرات عالمية، فأهمها تحول اليهود إلى نخبة اقتصادية متميزة بعد أن وجدوا أن بابل تزخر بأشكال العمل التجاري والمصرفي والحرفي الذي وجدوه مناسبا لهم، وهو ما جعلهم قريبين من مواقع صنع القرار العالمي، لاسيما وقد باتوا بعيدين عن الصراعات السياسية، فبابل التي سبتهم جعلتهم يتخلون عن نزعتهم المحلية لينطلقوا إلى آفاق عالمية رحبة مرتكزها الاقتصاد والعمل، فيما أخذت معتقداتهم تأخذ طابعا غنوصيا لاسيما في الجانب الشعائري حتى يقوا أنفسهم الاضطهاد والعنف الناتج من استيطانهم في مجتمعات متزمتة، إذ بقي هذا الأمر ملازما لهم حتى بعد خروجهم من بابل التي لم يبقوا فيها طويلا بسبب ما شهدته البلاد من تغيرات سياسية، فبعد سقوط الحكم الفارسي الأخميني على يد الإسكندر المقدوني القادم من بلاد اليونان وانتقال مركز الحكم إلى سلوقية الواقعة على نهر دجلة في عهد خلفائه السلوقيين، انتقلوا إليها ثم إلى طيسفون (المدائن) عاصمة كل من الفرثيين والفرس الساسانيين، ثم إلى بغداد عاصمة الدولة الإسلامية في العصر العباسي ومنها إلى استانبول وروما وروسيا وفينا وباريس ولندن ونيويورك وغيرها.

إذ نجد أنهم استوطنوا العواصم التي تتحكم بالقرار السياسي والمدن الكبرى التي تمتاز بنشاط تجاري كبير، وركزوا على الأعمال الحرفية والتجارية التي تتيح لهم تبوأ منزلة اجتماعية مهمة في البلدان التي يقطنوها من دون أن يتخلوا عن موروثهم الديني وانتمائهم العضوي للطائفة اليهودية.

ومن ثم فقد كان للسبي أثره في تحول اليهود من جماعة صغيرة منبوذة إلى نخبة فاعلة ومؤثرة على الصعيد العالمي، وهو ما أثر أيضا على المجتمعات التي استوطنوها التي ازدهر فيها العمل الاقتصادي، وراجت أو اتسعت فيها الأعمال التجارية والحرفية والمصرفية التي يمتهنها اليهود، فاحتفظوا ببعض من موروثات السكان القدماء التي كادت تطمس بسبب الهجرات والغزوات التي شهدتها بعض البلدان مثل العراق.