شاهر النهاري

أحدث إصدارات الغزو والفتوحات العظيمة

الاثنين - 14 نوفمبر 2022

Mon - 14 Nov 2022

تاريخ العلاقات البشرية كان مبنيا على منهجية الغزو، وهو قيام جماعة معينة أو دولة بالهجوم المبرر أو غير المبرر على جماعة أو دولة أخرى، واستباحة دم رجالهم، وحوز ممتلكاتهم، وسبي نسائهم، واتخاذ صغارهم عبيدا يقومون بالأعمال الرديئة والخدمية ودون أجر.

وكلما كان الغزو كبيرا وطال أراضي شاسعة، سميت العملية بالفتح العظيم، للتدليل على التمكن واستدامة التواجد وحوز البحار والشواطئ والأودية والجبال والمزارع وموارد المياه والهيمنة على البشر وعملهم بالسخرة، لرفع اقتصاد الغازي وحماية حدوده وتأهبه لغزو جديد.

ذلك ما كان يحدث في عصور سحيقة، وحتى وقت قريب من تاريخ يتطور وتتغير فيه مناطق وعناصر السيطرة، وإخضاع الممالك وصنع الإمبراطوريات، التي كانت تتقاسم الهيمنة على وجه الأرض، حتى وصف بعضها بأن الشمس لا تغيب عنها، والبعض بأن السحاب مهما ابتعد فلا يبتعد خراجها.

أما الغزو العصري فهو يحدث دون حاجة لحروب مباشرة، وبواسطة دبلوماسية فرق تسد، وضغوطات اقتصادية وإعلامية وعسكرية وغسيل أمخاخ جماعي، والتجسس وزرع الإرهاب والخيانات، بتأييد من التقنية الجديدة للتواصل، والتي تصب في صالح صانعها، القادر، المتمرس، والذي لم يعد يحتاج للغزو البدني، كون خير السحاب يأتيه، والشمس تشرق على أطرافه، كيفما دبر وفعل.

تخيل كيف أن أمريكا وهي في حدود قارتها البعيدة، تتمكن من جعل العالم يدور في فلك تقنيتها وقوتها وأسلحتها وسياستها واقتصادها، حتى أن أغلبية الدول كبيرها وصغيرها تشعر بارتباطها المباشر مع كل ما يحدث في الداخل الأمريكي، وليس فقط معرفة شكلية، ولكن بتحفيز الجميع على التعمق، والترقب والتموضع، وفهم طرق وآليات الحكومة الأمريكية فيما يحدث على أرضها، من سياسات وانتخابات رئاسية ونصفية للحزبين، ومن تكوين مجلسي شيوخ ونواب، وحرج الفوز أو الخسارة، وعن الشخوص الأكثر تأثيرا في ذلك، والتشعب أكثر، في علاقات النواب والشيوخ مع بعضهم، وتحدياتهم، وخناقاتهم، وكأنهم يعيشون فوق كل شبر على وجه الأرض، يعرفهم المثقف في كل الدول، ولا يجهلهم حتى قليل الثقافة في جمهوريات موز وبإدراك تأثيرهم المرتقب بما يؤثرون في سياسات بلدانهم جميعا.

أغلب الشعوب تعرف عن سياسات أمريكا أكثر مما تعرف عن سياسات أوطانها، فيراقبون كل حدث مهما صغر، ويتعلمون ويحللون ويناقشون ويتعاركون بثقة معرفتهم بميول وتحزب، ولو أن أغلبهم لم يطأ أرض أمريكا، ولم يعش ضمن ما يفعلونه من حرية وديمقراطية، وانتخابات، وتكامل بين أعضاء الحزبين، فكأن الشأن الداخلي الأمريكي أقرب وأهم وأبقى لهم ولدولهم.

حياة عموم ساكني المستديرة أصبحت رهينة بنتاج هذا الغزو والفتح الأمريكي العظيم، لغويا وفكريا وإعلاميا وثقافيا واقتصاديا، فيكون العنت والفقر والبطالة والشتات والهجرة حينما تغضب أمريكا، ويتم الأمن والاستقرار والتنمية والرخاء برضاها، وكيف أن وجوها جديدة للسخرة والعبودية تتكون عالميا، بمجرد تغيرات داخل أروقة السياسة الأمريكية، ليثبت الغازي المهيمن تأثيراته على الأمصار والبلدان والقارات من على البعد.

أمريكا في عصرنا الحالي هي عين الغزو والفتح العظيم، وكل من يحاول معاداتها، مثل روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران يظلون قيد غزوها وضغوطاتها وعقوباتها ومفاهيم حزبها الحاكم، ومهما ناوروا وحاولوا إظهار غير ذلك، كون غزوها عصريا حتميا مستمرا متعاظما، لا يزول إلا بزوالها.

@shaheralnahari